فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

لبنان.. كتب.. وفلاسفة.. ودماء!

ليس سرًا أن لبنان هو المصنع الرئيسي للكتاب، والمنضدة التاريخية للورق، والمحبرة التي لا تنضب لكل الكتّاب المشاغبين والمفكرين الشياطين، على اعتبار أن المبدع عبارة عن «شيطان مثابر» تطرده من الباب ويدخل عليك من الشباك، كما يصفه الكاتب اللبناني علي حرب في كتابه «الماهية والعلاقة». يغرق لبنان يوميا بالجديد من الكتب والمؤلفات والترجمات والمذكرات، وبغض النظر عن تراجع مستويات الشغف بالكتاب والقراءة والولع بملمس الورق، غير أن كينونة الكتاب بقيت حاضرة طوال تاريخ لبنان الحديث. ولأن كل شيء يتحول إلى مضمون سياسي في بلد مثل لبنان، فإن الفكري نفسه قد أُدغم وانساق مع السياسي، ليغدو كل نقاش فكري دائماً تحفّه أشواك السياسة ودهاليزها، حينها تتحالف عناقيد الغضب الفكري مع الديناميت السياسي القاتل.
يأخذ الكتاب صيغة رسالة، وتأخذ النظرية وسيلة إثبات، ويُستدعى الفيلسوف القديم من أجل تحقيق غرضٍ حاضر.
في بدايات عام 2006 اهتم وليد جنبلاط بالمؤرخ إريك هوبزباوم وتحديدا في جزء «عصر التطرفات» من رباعية هوبزباوم التاريخية، تحدث حينها مع الصحافيين أنه باطلاعه على هذا السفر الضخم يحاول إدراك المآزق التاريخية التي حدثت بالعالم، وتحديدا في أوروبا بغية تمييز الواقع العربي واللبناني. يأخذه بالطبع همّ التطرفات لا السياسية والاقتصادية فحسب، بل والدينية، على اعتباره الزعيم لأقلية يخاف عليها من المتطرفين والأصوليين القتلة وبأن الخوف بعد المجازر الأصولية ضد «الإيزيديين» في العراق، من هنا كان الهم القديم لبذل الجهد في فهم الظاهرة الأصولية.
في ذروة الخلاف بين جنبلاط وحزب الله وأثناء إجراء الحوار السياسي في بيروت جلب وليد معه إلى الطاولة نسخة من رواية «سمرقند» لأمين معلوف، وفي حديث مطول مع الصحافي حسام عيتاني تحدث عن وجود «رسالة» من هذا الاصطحاب، فهي رواية تتحدث عن «الحشاشين» والقتلة باسم الدين، بالطبع كان يريد لهذه الرسالة أن يضع حدا للأصولية التي كان يرى جنبلاط أن حزب الله يمثلها آنذاك. وفي نظري أنه لو جلب معه رواية «آلموت» لفلاديمير بارتول لكانت أدق لأنها كتبت عن قلعة «الحشاشين» الكبيرة قبل سبعين سنة وكاتبها فيلسوف وعالم نفس ومؤرخ بنفس الوقت والمعسكرات التي يصفها في الجبال وعلى حصون تلك القلاع شبيهة بعالم الأصولية الحالي، لهذا اشتهرت وبيعت بأعداد كبيرة بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول). كان جنبلاط يهتم بالكتاب بوصفه رسالة سياسية، غير أنه أعلن في مايو (أيار) 2012 أن إهداءه للكتب وقراءتها ليست سياسية بيد أنها معرفية بحتة، مستدلاً بكتاب «دروز بلغراد» لربيع جابر، الذي أهدى منه مئات النسخ لأصدقائه والمقربين.
تحضر الكتب وعوالم النظرية وأسس الفهم والتحديد في اللقاءات والحوارات، وتحضر الرمزية في الإهداء والشرح، جنبلاط مهووس بالتاريخ والحروب العالمية والقراءة في الفاشية والنازية - كما يتحدث وائل أبو فاعور - وفي زياراته مع سمير جعجع أهداه كتابين. وفي حوارٍ تلفزيوني ضم نبيه بري وغسان تويني جلب الأخير معه كتيبات رجل الدين الشيعي المعتدل محمد مهدي شمس الدين وقرأ نصوصا من الكتاب بحضور بري، الذي امتعض ولم يعلق على مفهوم «الدولة» و«المواطنة» التي طرحها شمس الدين بشكل مدني يختلف جذريا مع ممارسات الأحزاب والمجاميع والكتل الشيعية المتطرفة بلبنان.
يتحدث الراحل غسان تويني أنه إبان زياراته لسمير جعجع بالسجن كان الأخير مهتما بالفلسفة الألمانية، وكان حينها يقرأ كتاب كانط «نقد العقل المحض» وتويني أستاذ الفلسفة كان يجد في النقاش مع الحكيم اللبناني جعجع فائدة في شحذ الذهن والبحث في الأفكار والمغاليق، وبخاصة أن نقد كانط ليس سهلا، بل يستغرق وقتا في القراءة والفهم والاستيعاب، فهو «كتاب الكتب» بالنسبة للفلسفة في العصر الحديث. وجعجع من الواضح أن السنوات الإحدى عشرة التي قضاها في السجن كانت غنية بالمطالعة العميقة، وقد أراد انتقال «عدوى الفلسفة» إلى جنبلاط والذي أهداه كتاب هيغل «فلسفة التاريخ».
سياسيون كُثر مروا على لبنان كانوا على قدر كبير من الدهاء العلمي، والفاعلية الفكرية، والانغماس الأدبي والعلمي، نتذكر شارل مالك، وغسان تويني، وكمال جنبلاط المستوعب الدقيق للحضارات الإنسانية، ولمصادر الأفكار والعقائد والمذاهب، نتذكر حوار المذيعة الراحلة مونيك طنّوس معه، وقد كان يتمتع باستحضار معلوماتي قوي عن الفلسفات سواء منها الفلسفات ومذاهب الحكمة الهندية أو الصينية أو الفارسية، ومن ثم يعرج على الفلسفة الإغريقية، ويشرح بملكة «المعلم» الفلسفة الأوروبية بمختلف مراحلها، أخذته بآخر المطاف الصيغة الروحانية التي «تنزل الإنسان» منزلة مطلقية تجعله الحارث في هذا الكون، كما آمن بـ«أزلية الروح» وعن استعصائها على الخضوع للزمانية.
في حوار فكري مهم أجراه الإعلامي السعودي أحمد عدنان مع الدكتور سمير جعجع تحدث فيه عن «مفهوم الدولة» وعن «التشابه بين عصور الظلام في أوروبا وبين الذي يجري حاليا لدى مجتمعات العرب»، معتبرا الأصولية خطرا محضا، ويبدو جعجع خلال سنوات «الربيع العربي» التي مضت مهتما بتاريخ الحركات الإسلامية وقراءة جذور الأصولية والبحث في أدبيات الإخوان المسلمين، وهذا لافت على اعتباره من أقرب الزعماء المسيحيين إلى الشرائح المسلمة، انطلاقا مع قوته الإعلامية ودعواته إلى «علمنة الأحزاب» السياسية في لبنان، وهذا ما أشار إليه بالمعنى النظري في حواره مع عدنان. بقدر ما يغرق لبنان بالكتب بقدر ما يغرق أحيانا بالدموع والدماء!
في الثاني من يونيو (حزيران) 2005، يخرج سمير قصير صباحا من بيته، ما إن ركب سيارته إلا وحولت القنبلة جسده إلى أشلاء، على ما تبقى من حطام السيارة وجدت دماء متقاطرة من جسد الراحل لونت آخر كتاب حمله معه «هكذا تكلم زرادشت» لفيلسوف القوة «نيتشه» كتابه الأهم والأعظم.. هذه هي الصورة هنا، كتب وجمال، وفلاسفة.. ودماء.