سالم الكبتي
كاتب ليبي
TT

ليبيا الحديثة... كيف كانت الطريق إلى استقلالها؟

استمع إلى المقالة

لم يكن ذلك سهلاً أو يسيراً. حين شرعَ الليبيون عبرَ مخاضِ أعوام الأربعينات العسير في تحسّس تلك الطريقِ الطويلة. كان المخاضُ بالضبط مثلَ التي «أعشرت فأعسرت». كان مليئاً بالألغام وحقولِ الرماد. خرجوا بعيونٍ مطفأة من حروبٍ ودماء ونضالات. إيطاليا غزت وطنَهم بشراسةٍ في خريف عام 1911. حاولت أن تشاطئَهم ليكونوا ضفةً رابعةً لروما فيما ظلَّ موسوليني الأخرق يصيحُ أغلبَ الوقت بأنَّ الطليانَ لديهم جوعٌ للأرض. كانَ محسوباً على اليسار وعارضَ ذلك الغزو لكنَّه انقلبَ على عقبيه... وصار ديكتاتوراً فاشياً. الطليان بسطوا مشاريعَ استيطانهم في ليبيا المحتلة على امتدادها ما بين البحر ورمال الصحراء. رموا أبناءَها إلى المناطق القاحلة البعيدة. وهجروهم من ديارهم. اقتلاع الجذور والأصول... هكذا حال الفاشية في كل زمن. تنقلوا بهم عبرَ معتقلات ومنافٍ موحشة. كادت ليبيا تضيع.

قبل ذلك الخريفِ كان التمهيد للاحتلال واضحاً وبرز التنافس الاستعماري قوياً وجليّاً في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. كان صراعاً يشتد في حقيقة الأمر بين فرنسا وبريطانيا. تناهش بينهما على ما بقي من أملاك الرجل المريض عند البسفور.

فرنسا سارعت باتجاه الجزائر ثم تونس. بريطانيا بسطت يدَها وأرجلَها فوق مصر والسودان. والحلقات ظلَّت تضيق وتزداد عبر المنطقة العربية كلها. ليبيا صندوق الرمال المجهول أضحى يومَها منطقةً عازلةً تمنع الانفجار بين «المستر» و«المسيو». تأخر وصول الاحتلال الأجنبي إليها. لكنَّ الأطماع َوالتناهشَ لا ينقطعان. وفي هذا الحيز من الأعوام تحديداً في 1908 حاولت تركيا التجديد. السلطان عبد الحميد يرضخ ويصدر إعلان الحرية أو الدستور، وتظهر بعض محاولات الإصلاح التي كانت مجرد رتق لثوب ممزق في الهواء. يبدو «مجلس المبعوثان» صورة لإحدى تلك المحاولات. نواب من مختلف الولايات العثمانية يلتقون ويجتمعون. طرابيشُ وبذلٌ وعمائمُ وقهوةٌ وأراغيلات. كان نصيب ليبيا موجوداً أيضاً في هذا المجلس ومع ذلك ظلَّت ثمة غيومٌ في الأفق تلوح. ثم تغيب وتلوح من جديد. إرهاصات تقترب. وليبيا مرهونة في سوق النخاسة. صيف ذلك العام تأتي البعثة الصهيونية إلى برقة لتدرس إمكانية توطين اليهودِ في الجبل الأخضر فوق قمة شحات أو «قورينا» العريقة التي شيَّدها الإغريق، وكانت مدرسةً في الحضارة والفلسفة والعلوم والطب، وفيها نشأ «مذهب اللذة» وأعلن فيها دستور ينظم الحياة والمجتمع. أولى محاولات التفكير في الاستيطان والاحتلال الغريب. هنا يظل التاريخ مفتوحاً لكي يستعيد ما أغلق ذات يوم وحين ناقش الكبار بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945 وضع المستعمرات الإيطالية السابقة، وتقاسم مناطق النفوذ الجديد طرح تفكير أكثر غرابة يستند إلى المشروع القديم من بريطانيا الصديقة، التي تحالف معها الليبيون في سبيل استقلالهم في أغسطس (آب) 1940 تمثل في إرسال اليهود وتوطينهم في ليبيا!

كانت ليبيا عبر كلّ العصور مسألةً حساسةً، وبهذا لم تكن الطريق إلى استقلالها سهلة. واليوم ثمة جيلٌ جديدٌ في ليبيا لا يدرك تماماً تلك المعاني والمفهومات ولا يعرف أبعادَها وتفاصيلها على وجه العموم. لعلَّ التاريخ في بعض صفحاته أو كلها لا يعيد نفسه، لكنَّه يبقى كما هو مع المزيد من الحزن المطعم بالشعر الرديء في ليالي الشتاء. إنَّ ما حدث منذ ما يقارب ثمانين عاماً أو يزيد يكاد يقارب ما يحدث الآن، ويتماهى معه في بلاد أسيء إليها دونما مبرر. هل يتم تدوير التاريخ وليس استعادته مثلما يتم تدويرُ القذارة!

خاض الليبيون حروباً ومجاعات وقتلتهم الأمراض ومظاهرُ التخلف والطمع في بلادهم من غيرهم، وأحاطت بهم العديد من الحفر المظلمة التي رأت فيهم مجرد شعب متناثر بدوي وجاهل لا يستحق الاستقلال أو الحرية. شعب لا يختلف عمّن يجاوره غالباً في اللغة والدين والهوية. كان العالم يومها نصفه يرزح تحت سطوة الكبار اللصوص الذين ولغوا في الدماء ونهبوا الثروات، وتحكموا في المقدرات، وجلسوا على الأرائك بجوار المدافئ يحتسون الشراب.

ومع كل ذلك تصالحَ الليبيون ووقفوا على خطّ واحد في نقطة مستقيمة مع النفس والضمير.

شعروا بقيمة الانتماء للأرض التي سالت فوقَها الدماءُ قبل أن يسيل فوقها البترول. عادوا لليقظة والوعي عندما أحسُّوا بأنَّ ليبيا في مهب الريح والعواصف العاتية. تشرشل نظر لليبيا بأنَّها بطنُ التمساح الرخوة. روسيا كانت تريد أن تستأثر بقطعة من الغنيمة أو بالغنيمة كلها. فرنسا عينها على الجنوب في فزان. كانت تزنر المنطقةَ الخلفيةَ في تشاد والجزائر وغيرها. أميركا التي حسمتِ الحربَ الأخيرة وألقت قنبلتين رهيبتين فوق اليابان عينها أيضاً على تلك البقعة. بريطانيا موجودة بقوة. صراع ينشأ. لهاثٌ حول الوصاية أو الانتداب وصولاً إلى إعادة الاحتلال. كل تفكير لدى هذه القوى يستبعد الاستقلال لليبيا رغم التصريحات... وقصائد الغزل في عيونها. ليبيا ظلَّت حالة مستعصية على الدوام. تصارع الكبار وتناطحوا. نهض مشروع المستر بيفن الوزير البريطاني والكونت سفورزا الوزير الإيطالي عام 1949. كان مجردَ فخّ لاصطياد ليبيا بالوصاية عليها مثل يتيم لم يبلغ سنَّ الرشد. ثم لقي حتفه برفض الليبيين لكلّ بنوده. صحَّ منهم العزم وساروا في الطريق... نحو الشمس الذي لم يكن في كلّ الأحوال ميسراً. أسراره وطلاسمه من يقدر على فتحها سوى أبنائها المخلصين بالوصول إلى إعلان الاستقلال في الرابع والعشرين من ديسمبر (كانون الأول) 1951.

* كاتب ليبي