د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

ليبيا... نكسة إلى الوراء

ليبيا انتكست نكسة أخرى إلى الوراء، بعد أن قرر البرلمان المنتخب سحب الثقة من الحكومة غير المنتخبة، التي كانت إنتاج «ملتقى الحوار الليبي»، فالأزمة الليبية تعقّدت منذ أن مكّن هذا الملتقى، دخول لاعبين أشبه بالكومبارس، ما تسبب في انتكاسة شعبية، وظهور تحالفات جديدة مشوّهة يحكمها المال، غير قادرة على إنتاج حل، أو حتى تنفيذ اتفاق مكتوب، نظراً لضعف حضورها وعدم رضوخ باقي الأطراف المتصارعة لها سوى باستخدام المال، خاصة الميليشيات المسلحة.
وفي جانب آخر من الفشل، قام رئيس الحكومة «الجديدة» بتمرير حكومته، من خلال ترضيات شكلية ومناصب بلا صلاحيات لبقية الأقاليم، وهكذا سيطر على كل مفاتيح اللعبة، واستطاع بذلك أن يحصل أو يمرر الثقة لحكومته من مجلس النواب، وبدأ بالتمكين لسلطته من خلال خلق تحالف مع محافظ البنك المركزي وديوان المحاسبة، ما مكنه من تجاهل الوعود التي قطعها لبعض النواب وبعض الفاعلين، وجعل البعض يتهمه باحتكار «الغنيمة» في صفقات الكهرباء والموانئ والطرق، ولكن مجلس النواب «الغاضب» على استبعاده من «الغنيمة»، رفض تمرير الميزانية، بعد أن استفرد رئيس الحكومة بالسلطة، فعمل مجلس النواب على محاصرة رئيس الحكومة، من خلال تعليق اعتماد الميزانية العامة للدولة، ولكن رئيس الحكومة استطاع «التمرد» على البرلمان، بالتحالف مع محافظ البنك المركزي «المتمرد السابق»، الذي لم يمثل أمام مجلس النواب كما تقتضي القوانين واللوائح ورفض قرار الإقالة.
فشل رئيس الحكومة في تحقيق العدالة والمساواة في تقسيم المناصب على الأقاليم، والانحياز لطرف دون الآخر، جعلاها حكومة مغالبة، بدلاً من أن تكون حكومة وحدة وطنية، بل كان يتعمّد الصدام مع مجلس النواب برفضه إقالة محافظ البنك المركزي ورئيس مؤسسة النفط، المتهمين بارتباطهما بشكل مباشر مع جماعة الإخوان.
الحكومة لم تمارس مهامها من سرت كما نص الاتفاق، بل مارستها في طرابلس عكس الاتفاق، ولهذا فالميزانية لم تعتمد لأسباب عديدة؛ أهمها هو عدم اعتماد ميزانية الجيش، في حين دفعت الحكومة مرتبات للمرتزقة السوريين بالدولار.
في ظل المناخ المتقلب في المشهد السياسي الليبي، بدلاً من التهدئة وفتح حوار مع البرلمان، فضّل رئيس الحكومة سياسة التصادم والتناطح مع البرلمان، فدعوة التحشيد التي أطلقها رئيس الحكومة، للتظاهر ضد سحب الثقة من حكومته التي توصف بالفشل التام، هي تحريض، على حد وصف رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، الذي قال لرئيس الحكومة: «الذي أعطى الثقة هو الذي يسحبها».
رئيس الحكومة المسحوبة الثقة منها رفض في أكثر من مرة المثول أمام البرلمان، وحتى المرة اليتيمة التي جاء وحضر فيها جلسة للبرلمان، كان أغلب الوزراء غائبين، وتكفل هو بالإجابة عنهم، وكانت الإجابات جميعها مقصورة على الإيفاء بمتطلبات الإجابة من حكومة تمثل أمام برلمان منتخب من الشعب، على العكس من الحكومة التي جاءت من غير انتخاب، وإنما عبر اتفاق ما زالت الأسئلة عن كيفية كتابة فصوله تثير علامات التعجب والتساؤل، بدءاً من لجنة الحوار التي اختارت رئيس الحكومة والمجلس الرئاسي وفرضتهم على الليبيين من جنيف، لا يعلم أحد حتى اللحظة الأسس التي تم من خلالها اختيار أعضاء لجنة الحوار، وكيفية احتساب التمثيل الشعبي.
خلاصة القول: جماعة غير منتخبة اختارت حكومة ومجلساً رئاسياً غير منتخبين من الشعب، وطلب من البرلمان المنتخب من الشعب القبول بهذه التوليفة، التي لم تفلح حتى في فتح حوار مجتمعي يؤسس لمصالحة وطنية، بل كرّست المركزية والجهوية، وعززت خطاب الكراهية من خلال تكليف شخصيات جدلية، تسيطر على الإعلام، متهمة بمناصرة الخطاب المتشدد.
سحب الثقة من الحكومة كان ضرورة ملحة وجراحة مؤلمة، وإن تركت لتصريف الأعمال حتى لا تتعرقل الانتخابات، التي هي الأمل المنشود لليبيين للخلاص من جميع الأجسام السياسية الحالية.