ماكس هاستينغز
بالاتفاق مع «بلومبرغ»
TT

سقوط أفغانستان أحدث الدروس التي لم نتعلم منها

كان هناك كثير من اللحظات المظلمة خلال العقدين الماضيين منذ وقوع أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، بعضها في كابل الشهر الماضي. وما زالت لقطة من العراق عام 2007 تطاردني على نحو خاص. كانت المستشارة السياسية البريطانية إيما سكاي تستقل طائرة بلاك هوك مع القائد الأميركي الجنرال ريموند أوديرنو. ذكرت لرئيسها عبر الاتصال الداخلي كتابات لمحت على جدار أحد المباني في بغداد: «البطل الشهيد صدام حسين».
رد أوديرنو باقتضاب أن الديكتاتور المشنوق ارتكب جرائم قتل جماعي. وقالت سكاي التي كانت تحب العيش في قلب الخطر: «ما زلنا لا نعرف من قتل مزيداً من العراقيين؛ أنت أم صدام يا سيدي». وساد صمت مميت في المروحية، وحتى الدبلوماسي تساءل عما إذا كانت المستشارة قد تمادت، أم لا. وبعد ذلك، صرخ الجنرال «أو»، مثلما كانت تطلق، صرخ قائلاً: «افتحوا الأبواب أيها الطيارون، وألقوا بها في الخارج!».
هناك طبقات عديدة لهذه القصة، مسجلة في مذكرات سكاي عن خدمتها في العراق. وتستحق سكاي الاحترام، لأنها لم تخبر الجيش مطلقاً بما يريدون سماعه.
أما الجزء القبيح من هذه القصة فيتعلق بطبيعة الحال بتطرقها إلى حقيقة حول رد الولايات المتحدة على 11 سبتمبر. لقد قتل عدد أكبر بكثير من الأفغان والعراقيين خلال السنوات العشرين الفاصلة، مقارنة بالأميركيين الذين لقوا حتفهم في الهجمات على البرجين التوأمين ومبنى البنتاغون، وقليل منهم كان له أي علاقة بالمتشددين.
وباعتباري مؤرخاً، أقر بأنَّ هذه ليست ظاهرة فريدة، ففي الفترة من 1944 إلى 1945، قتلت الطائرات البريطانية والأميركية عدداً أكبر من المدنيين الفرنسيين والهولنديين في الهجمات الجوية ضد مواقع أسلحة هتلر في القارة، مقارنةً بالضحايا الذين أسقطتهم القنابل الطائرة والصواريخ النازية من الشعب البريطاني. ومع ذلك، فإن هذا لا يجعل القوة غير المتناسبة أكثر قبولًا الآن مما كانت عليه في ذلك الوقت.
في خضم كل الضربات على جانبي المحيط الأطلسي التي صاحبت الانسحاب من كابل، عدت بذهني إلى 11 سبتمبر، والسؤال الوحيد الذي بدا لي مهماً كان: ما الذي كان علينا نحن داخل الولايات المتحدة وحلفاؤنا أن نفعله بشكل مختلف، في أعقاب أكثر الأعمال الإرهابية تدميراً في التاريخ؟
دعونا نتفق جميعاً - الأميركيون والأوروبيون والديمقراطيون والجمهوريون والعسكريون والمدنيون - على أن خيار عدم القيام بأي شيء غير قائم. ذات مرة أوقفني صديقي اللورد هيسلتين، رجل دولة بريطاني مخضرم، عندما انتقدت بعض الحماقات الغربية في سوريا، وقال: «هناك لحظات يجب أن يرى فيها الجميع الحكومة تتخذ إجراءات».
كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لحظة بالغة الأهمية. وجرى إرجاء الحساب النهائي مع الزعيم الإرهابي حتى عام 2011 في باكستان، لكن عملية وكالة الاستخبارات المركزية والبحرية الأميركية كانت نموذجاً فريداً من نوعه، وبدت مبررة تماماً من وجهة نظر معظم العالم.
كما أن إطاحة نظام «طالبان» الأفغاني في نوفمبر (تشرين الثاني) 2001، من قبل رجال قبائل التحالف الشمالي بدعم من الضربات الجوية الأميركية والقوات الخاصة، مثلت أيضاً عملاً متناسباً، والذي حظي مرة أخرى بالدعم الدولي.
من جانبه، نشر المراسل الحربي البريطاني توبي هارندن كتاباً وضعه بالتعاون مع وكالة الاستخبارات المركزية، بعنوان «الضحية الأولى»، يصور الأشهر الأولى من الحملة العسكرية في أفغانستان. ويصف الكتاب بوضوح المغامرات المتقطعة التي تمتع بها رجال لانجلي في خضم الدماء والغبار ورجال القبائل، والتي انتهت - على ما يبدو - بوقوفنا مع الأشرار في جانب واحد.
ذلك الوقت، بالطبع، بدأت الأمور تنحرف عن مسارها. في خضم الغطرسة التي يتقاسمها السياسيون والجنود، ساد الوهم بأن أفغانستان يمكن إعادة تشكيلها على النموذج الغربي. والأسوأ من ذلك، أن جورج دبليو. بوش والمتعصبين المحافظين الجدد شحذوا سيوفهم لغزو العراق.
لماذا فعلوا ذلك؟ لماذا كذبوا وكذبوا مرة أخرى بشأن تواطؤ الديكتاتور صدام حسين في 11 سبتمبر، عندما لم تكن هناك ذرة من المعلومات الاستخباراتية تؤيد مثل هذا الادعاء؟ لماذا حطّم بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير سمعتهما بترويج مزاعم كاذبة بأن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل؟
عندما كانت مادلين أولبرايت وزيرة خارجية الولايات المتحدة، صرحت عام 1998 بنبرة لا تخلو من غطرسة معبرة عن توجهات الحزبين الجمهوري والديمقراطي والتي ستنعكس لاحقاً على كثير مما قامت به واشنطن بعد 11 سبتمبر: «إذا كان علينا استخدام القوة فذلك لأننا أميركا. نحن الأمة التي لا غنى عنها. نحن نقف شامخين، ونرى المستقبل أكثر من البلدان الأخرى، ونرى أن ثمة خطراً هناك يتهددنا جميعاً».
من جانبه، برر هنري كيسنجر دعمه لغزو العراق بقوله: «لأن أفغانستان لم تكن كافية. كان أعداء أميركا يتطلعون إلى إذلالها، وكان علينا إذلالهم». وكتب ستيفن ويرثيم من مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي في وقت قريب أنه «بدلاً من تشكيله تهديداً، وفر العراق مسرحاً. وعلى أراضيه، استعرضت الولايات المتحدة قوتها الساحقة».
في الأشهر التي تلت الحادي عشر من سبتمبر، كان أمراء الحرب الأميركيون غاضبين من ضآلة الأهداف المؤكدة في مرمى القوة الأميركية، والتي كانت على صلة بـ«القاعدة». في هذا الصدد، قال وزير الدفاع دونالد رامسفيلد: «يجب أن يكون لدينا شيء لنضربه... ليس هناك كثير من القاعدة لنضربها». وأطلق هو ونائب الرئيس ديك تشيني ونائب وزير الدفاع بول وولفويتز وعدد قليل من الآخرين الدعوة القاتلة لتوسيع رقعة الأهداف الأميركية لتصبح تدمير أعداء واشنطن وتأمين هيمنتها عبر رقعة كبيرة من العالم.
الحقيقة أنه ما من فائدة من وراء إعادة تدوير تفاصيل ما أعقب ذلك، وإنما يجب أن نركز على الأساسيات. ولا أنسى أبداً محادثة جرت مع قائد الجيش البريطاني آنذاك، الجنرال السير مايك جاكسون، في خريف عام 2002 بعد عودته من اجتماعات في واشنطن، للتخطيط لغزو العراق الذي شاركت فيه القوات البريطانية. قال جاكسون باقتضاب: «سيكون الوصول إلى بغداد أمراً سهلاً، لكنهم (الأميركيون) ليس لديهم أدنى فكرة عما سيفعلونه بعد ذلك».
وهنا، تجلى الدرس الأول المهم من وراء التدخل في أفغانستان والعراق، وهو أن الحملتين كشفتا عن إخفاقات مؤسسية في الاستخبارات الغربية لم يجرِ إصلاحها حتى هذه اللحظة. ورغم امتلاك وكالة الأمن الوطني الأميركية ونظيرتها البريطانية (مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية)، موارد إلكترونية استثنائية، فإنه من الواضح أن أياً من الاستخبارات الأميركية والبريطانية استوعب على الإطلاق طبيعة الشبكات القبلية والعائلية التي تلعب دوراً حاسماً في السلوك السياسي بجميع أرجاء العالم الإسلامي.
من ناحيته، يصف كتاب توبي هارندن كيف أن حفنة من رجال وكالة الاستخبارات المركزية تعثروا في الأخطاء بجميع أنحاء أفغانستان وهم ينثرون الدولارات ويوجهون الضربات الجوية، بينما نادراً ما تجد بينهم من يتحدث بلغة محلية أو يعي الفروق الدقيقة في الشخصيات. عام 2001، رفعت وكالة الاستخبارات المركزية أمير الحرب الأوزبكي عبد الرشيد دوستم إلى مرتبة البطولية، بينما في كتاب كريج ويتلوك الجديد «أوراق أفغانستان»، نجد أن الجيش الأميركي وصف الرجل العجوز بأنه قاتل.
في الواقع، أقترح ضرورة حظر العروض المعتمدة على برنامج «باور بوينت» في إطار التخطيط للعمليات العسكرية، ذلك لأنها تروج وهم المعرفة المطلقة بين القادة وموظفيهم. قبل بضع سنوات زرت غرفة عمليات مقر اللواء البريطاني في ولاية هلمند. لقد كانت تشبه إلى حد بعيد نظيراتها الأميركية: جلست صفوف الجنود أمام شاشات الحائط التي كانت تعرض طائرات من دون طيار ومعلومات حية من العشرات من ساحات القتال الفعلية والمحتملة.
كان انطباع المعرفة والسيطرة المهيمن على الموجودين مثيراً للإعجاب. ومع ذلك، اشتكى كل رجل يقاتل على الأرض تقريباً في تقارير ما بعد الأحداث من أنه لا يعرف إلا القليل أو لا يعرف شيئاً عما كان يحدث في الشارع أو القرية المجاورة - أو ما كان يفكر فيه السكان المحليون.
في هذا الصدد، نشر خبير مكافحة التمرد الأسترالي ديفيد كيلكولن كتاباً مهماً عام 2009 بعنوان «حرب العصابات العرضية»، حيث سلط الضوء على عدد الأفغان الذين شاركوا في المعارك ليس لأسباب آيديولوجية، ولكن لمجرد الإثارة. ووصف أحد هذه الأحداث مايو (أيار) 2006، عندما انضم مزارعون شبان إلى «طالبان» وهم يهاجمون القوات الأميركية الخاصة - وكانوا «يسيرون تلقائياً باتجاه صوت المدافع».
ولدى سؤالهم بعد ذلك عن سبب قيامهم بذلك، أجاب رجال القبائل: «هل بوسعكم إدراك كم هو ممل أن تكون مراهقاً في وسط أفغانستان؟ كان هذا هو الشيء الأكثر إثارة الذي حدث في واديهم منذ سنوات. كان سيخجلهم أن يقفوا جانباً وينتظروا انتهاء الأمر».
الملاحظ أن مثل هذه المواقف غالباً ما يجري تجاهلها عند دراسة والتعامل مع حركات التمرد، من بلفاست إلى بوغوتا. في الأسابيع الأخيرة، تضخمت قوة «طالبان» بشكل كبير، وذلك مع انخراط الأفغان الذين تتمثل آيديولوجيتهم الوحيدة في دعم المنتصر في صفقات مع الغزاة الوشيكين لكابل.
وفي جميع عمليات التدخل العسكري الأخيرة تقريباً، بما في ذلك فيتنام، فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها بصمة ثقيلة تضر بالنفس على المجتمعات البدائية، تتمثل في القواعد الجوية، والأسلاك الشائكة، والجدران المتفجرة، والدروع، والمروحيات التي تحلق على ارتفاع منخفض، ومراكز التسوق وخطوط الطعام لأفراد الخدمة، والنظارات الشمسية والخوذات التي تجعل الجنود يشبهون الآليين - وهي عناصر تضعف جميعها موقف الغرب حتى قبل أن يبدأ أي شخص في إطلاق النار.
وتعد هذه التكنولوجيا والتسهيلات، إلى جانب جولات الخدمة العسكرية القصيرة السخيفة، أمراً لا غنى عنه لرفاهية القوات الغربية التي تتولى بالقتال. ومع ذلك، فإنها تعكس خطأ جوهرياً: تحديد الأولويات والتكتيكات لتمكين قواتنا من إجراء الحملات بطريقة تناسبنا، وليس تبعاً للحقائق القائمة على الأرض ضد الأعداء الذين يتسمون ببصمة أخف. وبينما اتسمت قواتنا بأنهم أجانب، يرى السكان المحليون أعداءنا كأناس مثلهم ويشبهونهم.
سألت ذات مرة أحد كبار الضباط في جيش حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والذي خدم جولات متكررة في أفغانستان، عن قائمة الدروس الشخصية التي يجب أن نأخذها إلى الوطن من السنوات العشرين الماضية في مكافحة التطرف. رد قائلاً: «لم نتطرق قط إلى أسباب التطرف - ضعف التعليم ونقص الفرص والشعور بالإقصاء. لقد فقدنا المكانة الأخلاقية العالية بين المسلمين المعتدلين من خلال سلوكنا في أماكن مثل أبو غريب وغوانتانامو».

* بالاتفاق مع «بلومبرغ»