فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

الضجر الأميركي من «الحفرة الأفغانية»

يبدو تاريخ ما بعد الملكية لدى دول العرب والمسلمين يحمل سمة مشتركة في المآلات، إذ سرعان ما يطبق الخراب على الأرض لتفصح المجتمعات عن ثنائياتها الكامنة، فتتصارع على الهوية والطائفة والديانة والقبيلة، وتتفسخ مؤسسات الدولة.
لم يتوقع المبعوث الأممي والتاريخي لأفغانستان زلماي خليل زاده أن قصر الملك ظاهر شاه؛ والذي رآه برحلته من مسقط رأسه مزار شريف إلى كابل وهو صغير سيكون غرفة العمليات لمفاوضاته الطويلة بين مكونات الأفغان. لقد تنبأ منذ بواكير الأزمات بليل تطرف طويل ببلاده واليوم يرى النكبة الضاربة في مسقط رأسه حيث يضطرب أمنها وتحاصر من جهاتها الأربع، ويغدو المطار منفذ زائرها الوحيد كما أطلعتنا تغطية شبكة «العربية» المميزة، إذ روت الموفدة اللبنانية رولا الخطيب قصة رحلتها للمدينة قادمة من كابل، المطار منفذك الوحيد لمزار شريف التي كانت من أكثر مدن أفغانستان أمناً.
منذ تمدد طالبان في أنحاء البلاد مستثمرة الانسحاب الأميركي، وأخبار أفغانستان لها أولويتها لدى الراصدين؛ وما كان انتصار طالبان جديداً، وفي الحروب الأهلية ما من منتصر، لقد انتصر الأفغان على البريطانيين في القرن التاسع عشر، وعلى الاتحاد السوفياتي في القرن العشرين، لكن الأخطر كيف يمكنهم الانتصار على النزعات الكامنة والهويات الطاحنة. برغم كل المحتوى الأصولي لحركة طالبان غير أن جذرها البشتوني منحها القدرة على التغلغل والنفوذ ليس في شرق البلاد وجنوبها وحسب، وهو موقع انطلاقها الأول، وإنما في مساحات كبرى من أفغانستان بل وامتدت للجوار فوضعت قدماً ثقيلة لها في المحيط.
لم تكن الانسحابات الأميركية من العراق وأفغانستان مفاجئة، منذ نهاية عهد بوش الابن الذي ترك إرثاً لم يحتمله خلفه والحديث عن الانسحاب والانعزال مشروع مطروح ليس لدى باراك أوباما وحسب، بل ولدى ترمب، واليوم بايدن يقوم بتنفيذ الانسحاب الذي كان من مناصريه منذ أن ندم على تصويته مع حرب العراق حين كان في مجلس الشيوخ وحتى وقوفه الشرس ضد زيادة عدد القوات الأميركية في أفغانستان، حين اقترح رئيس هيئة الأركان الأميرال مايك مولين نشر ثلاثين ألف جندي فوري إضافي. قاتل بايدن وبعناد في الاجتماعات التي رأسها أوباما ضد الحروب ونشر القوات، ولهذا الرأي ولما سببته أفغانستان من مآسٍ نفسية وجسدية على الأميركيين قصص أوردها أوباما في مذكراته التي طبعت نسختها العربية بعنوان: «الأرض الموعودة».. قصص تروى.
في كل مذكراته، يبدو أوباما فخوراً باختلاف بايدن مع بقية فريقه، دافع عن رأيه المحافظ في المجال العسكري، فهو يعتبر أفغانستان «المستنقع الخطير» لأميركا؛ ونشر القوات يجب أن يرتبط بـ«استراتيجية واضحة». أوباما برغم نشره لقوات إضافية في أفغانستان غير أنه في قصصه حول الحروب والقتال دائماً يبدي ندمه. في روايته لقصة نشر القوات يعتبرها خطوة نحو «تجنب الهزيمة»، المزيد من الجيوش والقواعد والطائرات لن ينتج النصر، لكنه يؤمن أن تلك الخطوة كانت ضرورية لتحديد الصراع الدائم بين البنتاغون والبيت الأبيض، وحين اتهم البعض بايدن آنذاك بأنه سبب الصراع بين المؤسستين، دافع عنه أوباما في المذكرات.
واستراتيجية الانسحاب المنفذة حالياً تخمرت لدى بايدن منذ سنواتٍ طويلة حتى بعدما عرف بـ«تقرير ريدل» الداعي لاستمرار «الالتزام الأميركي» في محاربة الإرهاب و«القاعدة» بأفغانستان وباكستان بقيت رؤية بايدن انسحابية، أوباما لم يكن ضد التقرير لكنه يشكو من «غموض طريقة فعل ذلك» كان يرفض البدء من الصفر في تلك الحرب، بعد ذلك اقترح وزير الدفاع حينها روبرت غيتس تبديل قائد القوات ماكرينان بالفريق ستانلي ماكريستال والهدف تحقيق مهارة أعلى في العمليات المزمع تنفيذها آنذاك.
بحسب أوباما فإنه لم يدن عهد بوش بشكل مطلق؛ يقول: «أنا على عكس بعض اليساريين»، يعلم أن الإرهاب هدفه بشكل أساسي مصالح أميركا وحلفائها بالعالم، لكنه استمع إلى تقدير مهم لجون برينان المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية، وخلاصة قوله: «إن تنظيم طالبان على عكس (القاعدة) في صلب نسيج المجتمع الأفغاني، ولا يمكن استئصاله بهدوء وإن هذا التنظيم رغم تعاطفه مع (القاعدة)، لم يقدم أي إشاراتٍ إلى أنه يتآمر لضرب الولايات المتحدة أو حلفائها خارج حدود أفغانستان». الذي يتعجب منه أوباما حيال تنظيم القاعدة ويأخذه عليه: «رفض أعضائه التفاوض للالتزام بقواعد الحرب العادية».
وضع غيتس بين عيني أوباما ما عرف لاحقاً بـ «استراتيجية الجهد الكافي في أفغانستان»، أوباما كما يقول لم يستمتع بأي من هذه الحروب، وكان منزعجاً من تركيز الصحف على خطوة نشر القوات وكأنه ينقض ما وعد به في حملته. بينما بايدن كان ضد كل انتشار على الدوام، بل تساءل كما يروي عنه أوباما عن سبب الحاجة لنشر مائة ألف جندي لإعادة بناء أفغانستان، فيما تنظيم القاعدة موجود في باكستان واستهدافه شبه محصور بالضربات الجوية التي تنفذها الطائرات المسيرة؟!
منذ أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2009 والحديث عن استراتيجية الانسحاب تأخذ الساعات الطوال في اجتماعات أوباما وفريقه. كان القادة العسكريون يقولون لأوباما بوضوح إن استئصال طالبان من أفغانستان أمر غير واقعي، وسحق تنظيم القاعدة يستحيل إذا نجحت طالبان في السيطرة على البلاد، وعليه ما يمكن فعله هو «تقليص نشاط طالبان»، اختلف بايدن مع ماكريستال حول نقطة محددة، بايدن يرى نشر 20 ألف جندي لمكافحة الإرهاب، ماكريستال يؤيد إرسال 40 ألفاً، وأوباما مصعوق من رقم كريستال لماذا هذا العدد إذا كنا قلصنا الأهداف؟!
الحل المريح لأوباما وهو في المنتصف بين بايدن وماكريستال طرحه روبرت غيتس، نرسل ثلاثين ألف جندي، مع خطة انسحاب وجدول زمني للعودة، من وجهة نظر أوباما كان «حلاً وسطاً» يؤيد خطة بايدن ويمنح ماكريستال القوة النارية لوقف تقدم طالبان.
اليوم بايدن ينفذ خطته التي صارع من أجلها طوال تسع جلساتٍ محتدمة، وهي نتاج رؤية مترسخة وقديمة، وكانت أمنية رئيسين سبقاه، لذلك فإن بايدن كان واضحاً في مؤتمره الصحافي منذ فترة حين قالـ«الحل هو التعايش مع طالبان»، وعليه فإن الانسحاب الأميركي سيكون مصحوباً بنفس الرؤية الانعزالية لدى أوباما، لأن دعوته للتعايش مع الحركة تعني ضمنياً أن على اللبنانيين التعايش مع «حزب الله»، والخليجيين مع الحوثي، والفلسطينيين مع «حماس»، والأفارقة مع «بوكو حرام»... إلخ.
لقد كانت أفغانستان ولا تزال معضلة كبرى، لقد أنهكت كل الرؤساء. يشكو أوباما في مذكراته من آثار ما بعد الجلسة الرابعة: «مع القهوة الرديئة التي كنا نحتسيها، غلب على الجميع شعور بالغثيان من أفغانستان، ومن الاجتماعات، ومن الآخرين بدون استثناء، أما أنا فقد شعرت بالعبء الذي يلقيه عليّ منصبي أكثر من وقت آخر منذ أن أقسمت اليمين الرئاسية».
الرحلة طويلة ومعقدة، ولا أدل على حالها من قول مولانا جلال الدين الرومي ابن بلخ وفخر الأفغان حين قال: «إذا ضاقت فردة حذاءٍ على القدم، فلا يفيد زوج الأحذية بشيء».