في فيلم «الحب في زمن الكوليرا»، تخيل غابرييل غارسيا ماركيز مثلث حب دائم بين شخصين متحمسين - فلورنتينو وفيرمينا – وبين الطبيب جوفينال أوروبينو، حيث تمكن والدها من إقناع فيرمينا بالزواج من ابنته. تدرب الدكتور أوروبينو طبيباً في باريس حيث ينظر له كبطل قومي بعد أن أنقذ الميناء الكولومبي، حيث تدور أحداث القصة، من أوبئة الكوليرا المتكررة (استناداً إلى مدينتي قرطاجنة وبارانكويلا المجاورتين).
كتب ماركيز يقول: «عندما عاد أوروبينو إلى بلاده وشم رائحة السوق النتنة، بينما كان لا يزال في البحر ورأى الفئران في المجاري والأطفال يتدحرجون عراة في البرك في الشوارع، هنا فهم فقط كيف حدثت المأساة، لكنه تيقن من أنها ستتكرر في أي لحظة».
في مختلف مدن العالم في أواخر القرن التاسع عشر، كان رجال مثل جوفينال أوروبينو يخوضون نفس المعركة وكانوا يكافحون من أجل إقناع حكومات المدن والنخب الحضرية باتخاذ التدابير الأساسية اللازمة للحد من انتشار الكوليرا. في أوروبا الغربية، تحقق الانتصار في هذه المعارك بعد عام 1892، العام الذي شهد آخر تفشٍ كبير للكوليرا هناك في هامبورغ. لكن في أميركا اللاتينية كان الصراع طويل الأمد.
«أراد الدكتور أوروبينو أن يجعل المكان صحياً، وأراد بناء المسلخ في مكان آخر، وأراد كذلك بناء سوق مغطى، لكن حتى أكثر أصدقائه البارزين تذمراً أشفق على شغفه الوهمي. هكذا كانوا، فقد أمضوا حياتهم وهم يتفاخرون بأصولهم وبالمزايا التاريخية للمدينة وبقيمة آثارها وببطولاتها وجمالها، لكنهم كانوا عجزوا عن رؤية أثر السنوات الطويلة عليها». يبدو أن الفكرة السائدة لماركيز هي «أن أعراض الحب كانت مماثلة لأعراض الكوليرا»، حيث تشير فكرته إلى أن الكولومبيين لم يتمكنوا من التمييز تماماً بين الطاعون والعاطفة.
مرت أميركا اللاتينية بوقت عصيب للغاية منذ تأكيد أول حالة (كوفيد - 19) في ساو باولو في 26 فبراير (شباط) من العام الماضي. إن رتبت دول العالم حسب الوفيات لكل مليون، فستجد أن عدداً قليلاً فقط من دول أوروبا الشرقية في حال أسوأ من غيرها، لكن أرقام الوفيات الزائدة في أميركا اللاتينية صادمة بشكل كبير. وبصورة عامة، ارتفع معدل الوفيات في الولايات المتحدة منذ يناير (كانون الثاني) من العام الماضي بنحو 18 في المائة عن المعدل الطبيعي، وفقاً لتقديرات «فاينانشيال تايمز». وبالنسبة للمملكة المتحدة، فإن الرقم هو نفسه تقريباً (17 في المائة) أما بالنسبة للبرازيل فهو 34 في المائة.
وبالنسبة للمعلقين الغربيين الذين اعتادوا على توجيه كلمات الازدراء إلى الرئيس البرازيلي، جاير بولسونارو، فإن هذا يؤكد وجهة النظر القائلة بأنه مثل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب أو رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون وربما أسوأ. لكن النظرية القائلة بأن القادة الشعبويين هم المسؤولون عن ارتفاع وفيات (كوفيد) تبدأ في الظهور بشكل أقل إقناعاً عندما تدرك أن معدلات الوفيات الزائدة في عدد من ولايات أميركا الجنوبية الأخرى أسوأ: بيرو تتصدر (123 في المائة)، تليها الإكوادور (67 في المائة)، وبوليفيا (56 في المائة) والمكسيك (55 في المائة) وهناك قصة سياسية هنا، لكنها ليست القصة المألوفة التي يتفوق فيها الشعبويون اليمينيون المجانين في تعريض شعبهم للفيروس.
فكما توحي رواية ماركيز الشهيرة، لا يوجد جديد حول مسيرة أميركا اللاتينية الشاقة خلال هذا الوباء. فعندما اجتاحت الإنفلونزا الإسبانية العالم في 1918 – 1919، كانت معدلات الوفيات في غواتيمالا (39 بالألف) والمكسيك (20.6) من بين أعلى المعدلات في العالم، وفقاً للتقديرات التي نشرها نيال جونسون ويورجن مولر في عام 2002. فقط في أفريقيا، وإندونيسيا، وجزر جنوب المحيط الهادئ كانت المعدلات أعلى. وبالمقارنة، فإنهم يقدرون معدل الوفيات في الولايات المتحدة بنحو 6.5 لكل ألف.
وبالمثل، وفقاً لبحث بقيادة سيسيل فيبود، في جائحة الإنفلونزا الآسيوية 1957 - 1958 - والتي كانت أقرب إلى (كوفيد) في تأثيرها العالمي من حلقة 1918 - 1919 الأسوأ بكثير - كان لدى تشيلي، وكولومبيا، والسلفادور، والمكسيك، وبنما، وفنزويلا معدلات وفيات أعلى بكثير من المتوسط العالمي.
كيف نفسر ذلك؟ كانت رحلتي الخارجية الأولى منذ 16 شهراً إلى مكسيكو سيتي الأسبوع الماضي، وهي المدينة التي أعجبت بها منذ أن زرتها لأول مرة قبل 40 عاماً حيث كنت شاباً يبلغ من العمر 17 عاماً، في مغامرة استمرت في عام ابتعدت فيه عن الدراسة للقيام برحلة على غرار رحلات جاك كيرواك التي حملت اسم «على الطريق». ورغم أن المدينة نمت بشكل متسارع منذ ذلك الحين، فإنها لم تفقد سحرها.
هناك حياة خضراء متضخمة في وسط المدينة حيث يحافظ الطقس الجبلي العاصف في الصيف على الهواء نقياً بشكل مدهش، ويظل المطبخ لا يقاوم بالنسبة لي، هل هناك فاتح للشهية أفضل من ميزكال؟
ومع ذلك، يمكنك أن ترى وأنت تمشي في الشوارع لماذا ضربت الأوبئة أميركا اللاتينية بشدة. فمن ناحية، فإن سكان أميركا الوسطى والجنوبية أكبر سناً في المتوسط من سكان معظم البلدان النامية. ففي حين أن متوسط العمر في أفريقيا هو 19.7 عام وفي جنوب آسيا 27.6 عام، وفقاً للأمم المتحدة، فهو 31 عاماً في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي. كما أن الناس أكثر عرضة للإصابة بالسمنة مقارنة بجنوب آسيا أو أفريقيا. ومعدل انتشار السمنة حسب العمر بين البالغين في المكسيك هو 28.9، وهو ليس بعيداً عن الولايات المتحدة (36.2).
من ناحية أخرى، تتمتع أميركا اللاتينية بتغطية رعاية صحية أكثر تفاوتاً بشكل ملحوظ، من معظم البلدان النامية ذات السكان المسنين وغير الأصحاء نسبياً.
في جميع أنحاء العالم أصبح من الواضح الآن أن (كوفيد) يقتل الفقراء أكثر من الأغنياء، وأصحاب البشرة الداكنة أكثر من ذوي البشرة الفاتحة. وفي أميركا اللاتينية، بمستوياتها المرتفعة من عدم المساواة - حيث يرتبط الفقر غالباً بصبغة الجلد – أصاب المرض الكثير من الأشخاص الأكثر عرضة للخطر في العديد من المدن الكبيرة والمزدحمة.
التطعيم في أميركا اللاتينية يتسم بالفوضى إلى حد كبير حيث جرى تلقيح أكثر من نصف السكان في الولايات المتحدة؛ وفي كل من المملكة المتحدة وكندا تبلغ النسبة 59 في المائة. والأرقام في أميركا اللاتينية أقل بكثير: 22 في المائة في الأرجنتين والبرازيل، و18 في المائة في المكسيك، وهي ليست متقدمة كثيراً على الهند (13 في المائة). حتى في الحالات التي يسير فيها التطعيم بشكل جيد (تشيلي: 57 في المائة)، أثبتت اللقاحات الصينية التي اعتمدوا عليها أنها أقل فاعلية بكثير من اللقاحات التي تنتجها شركات «مودرنا»، و«بيونتيك»، و«فايزر».
لكن لا ينبغي اعتبار هذه الاختلافات على أنها بلا سبب. فللمزيد من الإيضاح قد نحتاج إلى إلقاء نظرة على سياسات المنطقة. إن القول بأن المشكلة تكمن في القادة الشعبويين هو أمر مفرط في التبسيط. صحيح أن البرازيل لديها رئيس يميني شعبوي والمكسيك شعبوية يسارية، لكن في بيرو، يتمتع الكونغرس بالسلطة لدرجة أنه أسقط ثلاثة من الرؤساء الأربعة الآخرين للبلاد، بما في ذلك مارتن فيزكارا، الذي جرى عزله مرتين في عام 2020، وأُجبر أخيراً على الاستقالة رغم نسبة التأييد التي تجاوزت 50 في المائة. في الإكوادور أيضاً، لم يتوافق الرئيس لينين مورينو مع الصورة النمطية الشعبوية العام الماضي، وفي الانتخابات الرئاسية التي جرت الشهر الماضي، تم استبداله بمرشح يمين الوسط، المصرفي المؤيد للسوق غييرمو لاسو. وفي بوليفيا، تفشى الوباء بعد الإطاحة بالرئيس الشعبوي إيفو موراليس من السلطة.
على أية حال، حتى الشعبويون لديهم القليل جداً من القواسم المشتركة عند مقارنة استجاباتهم الوبائية. قد يكون الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور رجل الشعب، لكنه لم يفعل الكثير لحماية المكسيكيين من الفيروس أو آثاره الاقتصادية. على عكس البرازيل، لم يكن هناك دعم مالي تقريباً للاقتصاد المكسيكي.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»