حسام عيتاني
كاتب وصحافي لبناني لديه عدد من المؤلفات؛ منها: «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، إضافة إلى ترجمات ومساهمات في دوريات عربية مختلفة. انضم إلى كتّاب «الشرق الأوسط» في عام 2018.
TT

انتظار «وعي تاريخي» في غير موضعه

لا يكفي أن يعاني لبنان من واحدة من أسوأ ثلاث أزمات اقتصادية في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، كي يتوفر الحافز عند الجماعة السياسية المتسلطة للبدء بخطوات عملية لمنع تفاقم الانهيار الشامل.
تقريران للبنك الدولي صدرا عن «مرصد الاقتصاد اللبناني» في البنك الدولي («لبنان يغرق (إلى أول ثلاثة)» – ربيع 2021) و«الانهيار المتعمد» – خريف 2020) يشرّحان من دون قفازات ولا تنميق حقيقة الكارثة الاقتصادية والسياسية الحالية. التقرير الجديد الذي نُشر نصه الكامل باللغة الإنجليزية يوم الثلاثاء في الأول من يونيو (حزيران) يُكمل ما بدأه سابقه من تجميع لأرقام الواقع اللبناني: في 2019 انكمش النمو 6.9 في المائة. في 2020 تضاءل حجم الاقتصاد الوطني 20.3 في المائة. السياحة اضمحلت تقريباً بنسبة 71.5 في المائة. سنة 2020 كان إجمالي الناتج المحلي 33 مليار دولار مقارنة مع 55 ملياراً في 2018. نِسب الفقر والبطالة ترتفع ارتفاعاً صاروخياً. الجريمة تتزايد. هجرة المتعلمين وذوي الكفاءات صارت «أملاً» للباقين من اليائسين الذين ينتظرون تحويلات من الخارج لسد الرمق. الرأس مال البشري الذي راكمه لبنان على مدى عقود والمكون من أكاديميين وأطباء ومهندسين وأصحاب اختصاصات حيوية، يتبخر.
في «الانهيار المتعمد» يوضح التقرير كيف سلكت السلطة سلوكاً واعياً لمنع علاج الأزمة في مراحلها الأولى. في «لبنان يغرق» يستعيد الاقتصاديون الذين أشرفوا على التقرير مستعينين بمناهج مختلفة، وبما تيسر من مصادر نظراً لقلة ما توفره الجهات المسؤولة في بيروت، لرسم الواقع المأساوي وسبل الخروج منه. طرق الإصلاح المالي والنقدي والاقتصادي باتت معروفة ولم تتغير منذ بدء المسار الكارثي الحالي: توزيع الخسائر عبر «الهيركات» وإعادة هيكلة القطاع المصرفي وقانون التحكم برؤوس الأموال «الكبيتال كونترول» لمنع نزف العملة الأجنبية إلى الخارج، وقبل كل ذلك وجود سلطة سياسية تمثلها حكومة قادرة على اتخاذ هذه الإجراءات وتمرير القوانين اللازمة، ومباشرة التفاوض مع الهيئات الدولية لصوغ برنامج إنقاذي.
تكرار اقتراحات الإنقاذ والإصلاح ذاتها في تقريرين يفصل بينهما نصف عام، دليل على أن تقدماً ولو طفيفاً لم يحصل على صعيد تغيير المؤشرات الحالية وتحويلها من السلب إلى الإيجاب. ولئن اتفق تقرير البنك الدولي مع الجماعة الحاكمة على أن الممر الإلزامي للتعافي من الوضع القائم هو تشكيل حكومة، إلا أن اتفاقهما ينتهي هنا بسبب مفهومين شديدي الاختلاف للمهمات والأدوار التي يتعيَّن على الحكومة المنتظرة، أداؤها.
اليوميات اللبنانية لا تنطوي في حقيقة الأمر على رؤية جديدة عند الحاكمين لكيفية تشكيل الحكومة المعلق منذ تسعة أشهر. الصراع بين فريق رئيس الجمهورية وبين رئيس الوزراء المكلف يدور في متاهات «حقوق» الطوائف والتفسيرات الدستورية وكسب الوقت، في انتظار الانتخابات التشريعية والرئاسية المقررة في العام المقبل. معاناة المواطنين اليومية يجري الالتفاف عليها من خلال شبكات أمان مرتجلة زيدت على تلك التي كانت الطوائف أنشأتها بديلاً من مؤسسات الدولة. الحصص الغذائية والبطاقات التموينية التي توزعها أحزاب السلطة، إضافة إلى حملات التلقيح ضد «كورونا» تمتص بعض التوتر الاجتماعي عند الفئات الأكثر تعرضاً لأضرار الانهيار الاقتصادي. في المقابل، يُخفي هذا النوع من الإحسان السياسي نوايا القوى المتحكمة بلبنان عدم إجراء أي إصلاح جدي يوقف الفساد الممأسس والمقونن، الذي يجري على أعلى مستويات الإدارة والحكومة وبرضا جميع الأطراف.
الحكومة المقبلة، وفق الأنباء الصحافية، ستكون نسخة عن سابقاتها من جميع النواحي. و«حلم» السياسيين العاملين على تشكيلها لا يزيد على استخدام الحكومة كمنصة لاستئناف عمليات النهب واسعة النطاق التي كانوا يتعيّشون عليها قبل انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019. المهم في رأيهم هو ضمان التشكيلة المقبلة لماء وجه الزعامات المدافعة عن فتات الدولة، لمصلحة أبناء الطوائف المتحاصصة والمتناهبة.
الكلام أعلاه يبدو مكرراً لمرات كثيرة. لكن هل يمكن الحديث عن «وعي تاريخي» لدى الجماعة الحاكمة؟ وعي تستطيع فيه القوى الطائفية التي قادت البلد إلى مأساة لا سابق لها في تاريخ لبنان، إدراك ماهية وضع البلد على صعيد العالم والإطار التاريخي الحالي وكيفية تجاوزه، وإعادة لبنان إلى خريطة العالم والنمو؟ الجواب الجازم هو لا. لا يصح - ولو من باب التمني - انتظار شيء إيجابي من الجماعة المذكورة. «لا ينجم شيء مستقيم من جذع الإنسانية الملتوي»، بحسب عبارة كانط.
بيد أن التاريخ لا يعترف بالتكرار، وما يظهر كأنه عَوْدٌ دائمٌ إلى نقطة الصفر هو في حقيقته تراكم لتجارب ومقدمات لتغييرات، لا يصح الجزم بأنها ستكون إيجابية على ما يعانون اليوم لكنَّها ستكون بالتأكيد ضارية وعاتية.