أثارت زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي لجيبوتي، 27 مايو (أيار) الماضي، الكثير من الأسئلة حول علاقة الزيارة بالتوتر المصري مع إثيوبيا، بسبب رفض الأخيرة توقيع أي اتفاق قانوني ملزم يتعلق بتشغيل السد الكبير في إقليم بني شنقول السوداني الأصل، والذي ضُم من قبل بريطانيا إلى إثيوبيا في عام 1902.
الظروف والملابسات التي يشهدها القرن الأفريقي ككل، تؤثر في قراءة دلالات ونتائج زيارة السيسي لجيبوتي. فالزيارة هي الأولى لرئيس مصري لهذه الدولة الأفريقية العربية، والتي بحكم موقعها الجغرافي على الشاطئ الغربي لمضيق باب المندب، الممر المتحكم في البحر الأحمر من جهة الجنوب، تمثل عنصراً حاسماً بالنسبة لقناة السويس، وهي المرفق الاقتصادي المهم سواء لمصر أم لحركة الملاحة العالمية. وانطلاقاً من هذا الترابط الوظيفي بين موقعي مصر وجيبوتي، رغم ابتعادهما الجغرافي بما لا يقل عن أربعة آلاف كيلومتر، يُعد التنسيق بين البلدين في مجال تثبيت الاستقرار في القرن الأفريقي وأمن البحر الأحمر، دافعاً مهماً ومصلحة مؤكدة للطرفين. والمعلن أنه تم بحث الأمر واتفق الطرفان على بعض إجراءات تحقق المطلوب.
في مجال الأمن الإقليمي من الصعوبة بمكان أن يتجاهل المرء الدور الذي تقوم به جيبوتي لصالح التجارة الدولية، من خلال استضافتها لأكثر من قاعدة عسكرية، أولها وأكبرها الفرنسية وآخرها الصينية، وهي القاعدة العسكرية الصينية الأولى التي يتم إنشاؤها خارج حدود الصين، وما بينهما من نقاط ارتكاز بحرية خدمية وعسكرية ونقاط مراقبة ومهام دولية لمكافحة الإرهاب والقرصنة لكل من الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان، وجميعها ذات صلة بالوضع في القرن الأفريقي والمنافسة الدولية في بحر العرب والمحيط الهندي. وفي السياق ذاته تهتم مصر بأن يكون لها موقع قدم في جيبوتي ولكن بمعنى جديد، إذ تهدف المنطقة اللوجيستية البحرية التي يتم بحثها الآن من حيث موقع الإنشاء وحدودها المكانية وأسلوب عملها، إلى أن تديرها هيئة مدنية مصرية وتحديداً قناة السويس، بهدف خدمة السفن المتجهة إلى القناة، وتزويدها بالمؤن والوقود، وإعادة تحميل بعضها بالتجارة المتجهة من وإلى دول أفريقية نحو الغرب أو الشرق حسب الحالة.
تعميق العلاقة بين مصر وجيبوتي، يبدو خياراً مفيداً للجانبين، ليس فقط اقتصادياً وتجارياً، بل يمتد إلى أبعاد أمنية وأخرى سياسية ذات صلة بأزمة السد الإثيوبي الكبير، الذي يهدد عدم التوصل إلى اتفاق منصف وملزم بتشغيله وأمانه، بتفجر الموقف في عموم الإقليم، ومن ثم تدهور مصالح أطرافه بما في ذلك الذين لا صلة لهم مباشرة برفض الموقف الإثيوبي. ولذا جاء توافق الرئيسين السيسي وعمر جيلة حول ضرورة الاتفاق القانوني الملزم، معبراً عن أولوية التفاوض المثمر والتحذير من التفريط في أي فرصة محتملة في مدى زمني محدود للغاية، للوصول إلى تلك النتيجة السلمية التي يؤيدها قادة الإقليم. موقف جيبوتي على هذا النحو يمثل دعماً للتحرك المصري السوداني، وخصماً معنوياً ودعائياً من الموقف الإثيوبي الذي يراهن على أن دول جواره لن يخذلوا مواقفه الرافضة.
التحذير المصري من بديل التفريط في الحل السلمي التفاوضي الشامل، معروف ومعلن، وهو حالة عدم استقرار إقليمي لسنوات طويلة، وهي حالة مؤكدة إذا تم اللجوء - بعد استنزاف سياسة الصبر الاستراتيجي - إلى بدائل أخرى أياً كان مستواها. وهنا تبدو بعض التطورات ذات الملمح العسكري والأمني، ذات صلة بالبدائل غير التفاوضية من جانب، وبإعادة هيكلة موازين القوى في القرن الأفريقي ومنطقة حوض النيل من جانب آخر؛ منها التدريبات العسكرية بين القوات المصرية والسودانية برية وبحرية وجوية بمسمى «حُماة النيل»، والتي بدأت بالفعل في اليوم الذي زار فيه الرئيس السيسي جيبوتي، ومن قبل تدريبات جرت في مارس (آذار) الماضي بمسمى «نسور النيل 2». كما وقعت مصر عدة اتفاقيات عسكرية وأمنية واستخباراتية مع كينيا وأوغندا وبوروندي والسودان، وأخيراً تفاهمات جيبوتي.
التحركات المصرية على هذا النحو تؤكد تغييراً مهماً في التوجهات المصرية نحو أفريقيا بشكل عام، ونحو إقليمي القرن الأفريقي وحوض النيل بوجه خاص، وهما مترابطان من حيث التأثير المتبادل بين أوضاعهما العامة، وما يواجهانه من تحديات كبرى، وأيضاً من حيث تأثير مواقفهما على المصالح المصرية. هذا التوجه القائم على الاشتباك المصري المباشر بتفاعلات هذين الإقليمين وشمول أدواته وعدم تغييب الجانب العسكري، يؤدي عملياً إلى تعديل مهم في موازين القوى وإعادة بناء خريطة توازنات جديدة تقوم فيها مصر بدور رئيسي، كانت تفتقد إليه منذ فترة طويلة، وتحديداً منذ عام 1995، الذي شهد محاولة اغتيال الرئيس الأسبق مبارك في العاصمة أديس أبابا، وبعدها نأت مصر عن أفريقيا وفقدت الكثير من مكونات نفوذها التاريخي، ثم الآن تعمل على إحياء روابطها التاريخية وفق معطيات وأساليب وشراكات جديدة وشاملة.
التوجهات المصرية الجديدة، أدركتها أديس أبابا باعتبارها تحدياً كبيراً يمس تأثيرها الجيو سياسي وأهدافها بعيدة المدى في البحر الأحمر وشمال أفريقيا، وقد عبر عن ذلك صراحة البيان الصادر عن اللجنة التنفيذية لحزب الازدهار الحاكم في إثيوبيا برئاسة رئيس الوزراء آبي أحمد يوم 28 مايو، أي اليوم التالي لزيارة السيسي لجيبوتي، ووفقاً لما ورد في البيان، فإن هدف إثيوبيا هو استعادة النفوذ في البحر الأحمر وإعادة تأسيس العلاقات مع إريتريا على المصالح المتبادلة، مشيراً إلى أن مراقبي الوضع في القرن الأفريقي «لا يشعرون بالرضا عن تطور علاقاتنا معها». ويستطرد البيان إلى اعتقاد إثيوبيا «أن هناك أطرافاً إقليمية تسعى للحد من أهمية أديس أبابا الجيوسياسية في منطقة البحر الأحمر، وقدرتها في التأثير على القرن الأفريقي وشمال أفريقيا».
المراقبون المصريون حين يقرأون مثل هذا البيان في ظل رفض الاتفاق على تشغيل السد الكبير، وما يحتويه من رؤية تتناقض تماماً مع واقع إثيوبيا المليء بالانقسامات والحروب الأهلية والنعرات العرقية، ناهيك عن المآسي الإنسانية الحادثة في إقليم التيغراي والسماح للقوات الإريترية بالسيطرة العسكرية على أجزاء من الإقليم، وانتهاك حرمات الإثيوبيات، كما تشير إلى ذلك تقارير أممية وأميركية، يتأكد لديهم الاقتناع بأن تمسك أديس أبابا بما تراه السيادة المطلقة على مياه نهر النيل، ومنعها عن كل من مصر والسودان، هو جزء من استراتيجية بعيدة المدى يتصور حكام إثيوبيا أنها كفيلة بتجاوز أزماتهم الداخلية، وأن تجعلهم القوة الأولى والمهيمنة على المنطقة الواقعة من القرن الأفريقي إلى شمال القارة بما في ذلك مصر والدول العربية الأربعة الأخرى. ولذا يظل التحدي من يعيد لحكام إثيوبيا القدرة على رؤية الواقع كما هو، وليس من خلال الأحلام التي تتجاوز العقل الرشيد ولا تقف على أرض صلبة بأي حال.
8:2 دقيقه
TT
عودة مصرية إلى القرن الأفريقي
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة