خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

هل نصالح العناصر المحلية الداعمة؟

كل سياسي ناجح روائي تنقصه بلاغة النثر، وكل روائي ناجح سياسي تهرب من عبء تحقيق الخيال. لكنهما يقسمان بأغلظ الأيمان أن لا علاقة لأحدهما بالآخر. ولولا جسر الكتابة السياسية لصدقهما الناس. الكتابة السياسية تحاول أن تكون جسراً يجمع «الغريمين». تحاول أن تكتشف إمكانات الواقع، وأن تتخيل مصائده، ومنها هذا السؤال: هل نتصالح مع العناصر المحلية الداعمة. حيث أجد نفسي أفكر في الإجابة بمعطيات درامية، وكأنه صراع نوعين من الصبر.
النوع الأول صبر المكابدة. صبر يحتاجه من اختاروا دور «المناضل»، وشرط تأدية هذا الدور اليقين التام. أو هكذا يظن الناظرون. الاختلاف بين الظاهر والكامن، بين الظن والحادث، قانون الدراما الأول والثاني والثالث.
المناضل المعاصر ابن زمن متنوع، حيث السلطة لا تسير في اتجاه واحد كما كان الحال قديماً، قد يضحي المرء بمكسب في بلاده فينال أضعافه خارجها، أدبياً ومادياً. ناهيك أن فكرة الحق التام مقابل الضلال التام صارت في عصرنا سخيفة.
لكن مع هذا التغير ظلت الصورة الذهنية عن المناضل لم تتغير، كونها موروثة لدينا من عصور الصراعات الدينية، متبركة بمعيارها الأخلاقي، ومتزينة بتراثها الأدبي. لا يزال مناضلونا يعبرون عن الصراع السياسي بأدبيات كـ «الحسين شهيدا»، ويستعيرون لرأيهم السياسي وصف الحق المستدعى من حكايات الفتن والملاحم. يفعلون ذلك ويحسبون هيناً، وهو في دراما السياسة عظيم.
النتيجة أن المناضل المعاصر يريد أن يتقمص في الزمن الجديد صورة المناضل القديم، صورة «الثابت» الذي لا يتزحزح، صاحب الحق المواجه للباطل. لكنه يستعين على هذا الثبات بآليات حديثة. كالتلميع الإعلامي، والتمويل المالي، وتحويل قضايا جدلية في طبيعتها إلى ما يشبه المسلّمة الدينية، تنتفض عروقه دفاعاً عنها، كأنما يدافع عن مقدس ديني. الوعي الشعبي المصري التقط هذا التناقض، وأطلق عليه لفظاً كاريكاتورياً بليغاً: «نشطاء السبوبة». أي المناضل الذي زاده ومصدر طاقته المصلحة المادية، على اختلاف صورها، لكنه يريد أن يوحي بغير ذلك. ولا يعرف أننا نعرف.
ولأن نهر الدراما هادئ على السطح جارف بديمومته، لم يكن هذا نهاية المطاف. لقد أدت السبوبة إلى شقاق في صفوف «المناضلين» أنفسهم. بعضهم تبين له أنه صار ترساً في آلة تضخ عائدها كله في صفوف شريحة معينة منهم. وبعضهم صدمته القدرات العقلية للمناضلين الذين نفخهم داعموهم حتى جعلوهم يرافقون أينشتاين ونجيب محفوظ في سطر واحد، بينما لا يصلحون لقيادة فريق أنشطة مدرسية، وآراؤهم المعلنة في السياسة يحكمها الهوى، كبائع بطيخ يسوّق بضاعته.
لقد أحرق المناضلون الجدد أنفسهم. أحرقتهم دراما السياسة على طريقة «النقيصة القاتلة» في التراجيديا الإغريقية. العيب الذي يبدو ضئيلاً مهملاً ثم ينمو ليصبح مهلكاً.
النوع الثاني من الصبر في دراما السياسة هو الصبر على الإغواء. المناضلون يحبون المبالغة في تعرضهم لهذا النوع، ورفضهم له، لأنه يكمل صورة صاحب اليقين، الثابت رغم الفتن والاختبارات. لكنه في الحقيقة يمثل جزءاً ضئيلاً للغاية من قصتهم، والمسؤول عن وجوده فيها قبولهم له من قبل مشغليهم لا رفضهم له من قبل السلطة التي «يناضلون» ضدها.
موقع السلطة السياسية من نوعي الصبر معكوس تماماً. تتعرض هي الأخرى لامتحان صبر. فيه بعض المكابدة. هناك ضغوط من دول عظمى، وهناك حملات إعلامية صارت ضخمة في عصر «السوشيال ميديا» والمنظمات غير الحكومية العابرة للدول، بالإضافة إلى ظاهرة الإمبراطوريات الإعلامية، المنطلقة من كيانات صغيرة دولاً أو أفراداً، قادرة على تحريك جيوش من «العناصر المحلية الداعمة» لتحقيق أغراضها السياسية.
لكن الأخطر والأهم من بين نوعي الصبر هنا النوع الثاني، الصبر على الإغواءات التي تصاحب تلك الضغوط. في ذاكرتنا ما فعله الإرهابيون والوسطيون من صفوف الإسلام السياسي سابقاً. ضغوط من الإرهابيين، مصحوبة بإغواءات من الوسطيين. خليط نجح في الثمانينات والتسعينات في جر سلطات سياسية في المنطقة إلى كمينه، وإسقاطها في فخه المنصوب بعناية. لقد رأيتم ما فعل الإسلامبولي، وما فعل جهيمان العتيبي. افتحوا لنا نحن الأبواب نتكفل لكم بمواجهة هذه المشكلة. وستكسبون راحة البال والاستقرار. وبقية القصة تعرفونها. ندفع حتى الآن شعوباً وحكاماً ثمنها. ما يبعث على الأمل أننا الآن نقر بما حدث على أعلى المستويات. هناك مواجهة صارمة في مصر بذل فيها شباب منها أغلى ما يملك الإنسان. وهناك ملاحقة صارمة للإرهاب وأفكاره في الإمارات. جهود أحدثت تغيراً ملموساً في الوعي العام إزاء الإرهاب وأفكاره وتشكيلة معاونيه.
فهل نطمئن إلى هذا الوعي، من جانب السلطات، بينما نرى اللعبة الدرامية، الإغواء، تقدم مرة أخرى بتفاصيل جديدة؟ حيث المساومة هنا صارت أثمن، والإغواء أقوى، لا سيما وقد عظمت تكلفة المكابدة، فضمت إلى الإرهاب حملات إعلامية عالمية ومصالح اقتصادية واستراتيجية كبرى؟
من السهل تماماً التفرقة بين المعارض ذي القضية الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية الوطنية، وبين «العناصر المحلية الداعمة». النوع الأول وجوده في أي مجتمع علامة صحية مفيدة. أما النوع الثاني، الذين كانت وظيفتهم ترجمة مصالح الترك والفرس إلى اللغة العربية، فيمارس جرماً نقزمه في عيون الأجيال القادمة إن مررناه، ونفتح الطريق أن تعاني ما عانيناه. العناصر المحلية الداعمة ليسوا معارضين سياسيين، بل الصف المتقدم من العداء السياسي.
حان لمعادلة الدراما السياسية أن تكشف عن نفسها. لقد صبرنا صبر مكابدة بالفعل. الآن، بعض الصبر عن الإغواء سيقدم لمن ادعى صورة المناضل بينما كان «عنصراً محلياً داعماً» جزاءه الوحيد المستحق - الإهمال، وتحويله إلى صفر في معادلة المساومة السياسية.