د. عبد الغني الكندي
أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية - جامعة الملك سعود
TT

مندوبو مبيعات المعرفة: الشخصية التويترية وفاشنيستا الثقافة

عند إلقاء نظرة خاطفة وسريعة إلى السيرة الذاتية أو المرجعية الفكرية للكثير من متصدري المشهد الثقافي في السعودية، سيتبين لنا أنَّ هناك نمطاً سلوكياً عاماً؛ فمعظم هؤلاء من حاملي شهادات إدارة الأعمال والتسويق التجاري، ومعظم خبراتهم الذاتية محصورة في الأعمال التجارية أو القطاع الخاص أو أسواق المضاربات المالية. والغالب في سمات نمط هذه الشخصية هو: حداثة السن، والبحث عن الشهرة الواسعة، والتعمق في فكر الدعاية والتسويق، وتكديس الثروة، والاهتمام المفرط بالمظهر الخارجي، وإهدار الوقت في وسائل التواصل الاجتماعي، وقلة الخبرة الذاتية والتجارب الإنسانية المؤلمة، وصرف الاهتمام نحو زيادة أعداد المتابعين والمريدين في «تويتر»، والانشغال بالذاتية الخارجية والجماهيرية الشعبية على حساب التحليل الموضوعي للظواهر السياسية والاجتماعية. وجملة تلك السمات تتناقض مع الشروط الأربعة لإنتاج المعرفة العلمية الرصينة المؤثرة على صعيد الوعي الإنساني، والمتمثلة في عمق التجربة الإنسانية، والمخاطرة الوظيفية والفكرية، والارتكاز على منهجية التفكير النقدي، والانشغال بسؤال فكري أو موضوع علمي يلامس وجدان وحياة الإنسان في كل المعمورة.
ولربما يعود التفسير الجزئي لذلك إلى اكتساب البعض منهم للمادة الرأسمالية كالمال، والمظهر الخارجي، وعلاقات النفوذ الاجتماعي، والأهم من ذلك كله امتلاكهم التخصص التسويقي الذي أسهم في تحسين قدرتهم على تسليع المعرفة وترويجها ونشرها في دكاكين الجهل الاجتماعي ومستودعات الأمية الثقافية، التي تخضع فيها منظومة المعارف والأفكار إلى معايير شهرة الكاتب، وآليات العرض والطلب في أسواق الدعاية والإعلان. وقد أفضى هذا التوجه الاستهلاكي الواسع إلى تهاوي المعرفة العلمية الجادة والرصينة ومسخها إلى مخرجات معرفية غاية في التسطيح والبلادة الفكرية والخواء العلمي. وبسبب ذلك لم تعد المعرفة الموضوعية مادة علمية تناقَش في الجامعات، ومراكز الأبحاث، والمؤتمرات العلمية، بل تحولت إلى سلعة تسويقية تستهلكها صفحات «تويتر»، ومنصات الإعلام الرقمي، ووسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي مُسخ المثقف من صورته التقليدية كباحثٍ منهمكٍ في قراءة الكتب، ومتأملٍ في الطبيعة ومتدبر في نواميسها، ومستغرق التفكير في إبداع النظريات العلمية، إلى رمز إعلامي مشهور بـ«تويتر»، مثقلٍ بهموم البحث عن شركات الدعاية والإعلان، أو زيادة أعداد المتابعين والمتصفحين، يتأمل في شاشة الهواتف الذكية، والتطفل بحياة الآخرين، ونشر السخافات، وإبداع الشطحات الإعلامية. وفي كل الأحوال، فإن من يمتلك المؤهل التسويقي، والخبرة في الدعاية والإعلان، والمال والشهرة، سيجد حتماً فرصاً وافرة وواعدة في التأثير بالفضاء الثقافي العام، وتشكيل الوعي الجمعي، وذلك إمّا عن طريق استكتاب بعض المثقفين الفقراء بالمال والمادة، وإما باختلاس الأفكار، أو نشر معارف ضحلة وسوقية تستهدف مساوقة القطيع وتبرير الأوضاع القائمة، عوضاً عن التفكير النقدي والتحليل الموضوعي.
والمؤلم في كل ذلك هو واقع المثقف التقليدي، مثقف الكتاب والمجلة العلمية الذي غشيه سديم الفضاء الإلكتروني فهوى إلى قاع هذا العالم، ومن هنا تحول من مثقف مكتبة وكتاب، إلى ناشط «تويتري» مدمن على الهواتف الذكية وبرامج التواصل الاجتماعي. فلقد زحزح هذا العالم الافتراضي المكانة المركزية للمثقف التقليدي من عالم المعرفة العلمية، فاندثرت روحه النقدية الحية تحت ركام التقنيات الحديثة. وبعد أن كانت الصورة النمطية للمثقف التقليدي راسخة الجذور في الوعي الجمعي العام، وهو متوسد الكتاب بين يديه في المكتبات، وقاعات المحاضرات، وفي غرف الانتظار في المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، متأملاً بهدوء أسرار الكون ومجاهل الطبيعة، مسخ إلى كاتب «تويتري»، يسأم الانشغال بالقراءة الجدية، ويمل الانتظار، ويقتل الوقت الثمين في غربلة السخافات والترهات الفكرية والخوض في السجالات الصبيانية على «تويتر» ومختلف المواقع الإلكترونية. وبدلاً من توسّد الكتاب بين يديه، والقلم بين أصابعه، حمل هاتفه الذكي بين كفيه، وأصابعه تقلّب تغريدات «تويتر» والمواقع الإلكترونية، مهدراً وقته في الحوارات العبثية عبر الهواتف الذكية. وعلى قاعدة هذا النمط من السلوك الاستهلاكي تساوى الطفل والبالغ، العاقل والمجنون، المثقف والأمي، الوزير والفراش. والرابح من كل هذه التحولات الكلية لهوية الإنسان قطعاً هو المُنتج الرأسمالي المجرد غير المرئي والملموس، والخاسرُ هو الوعي الإنساني برمته.
ومن المفارقات المحزنة لهيمنة النمط الاستهلاكي على المعرفة الإنسانية أنَّ سجل الثقافة الذي كان يقوم على مؤهلات علمية حقيقية ترمز إلى مراكمة هضاب من المعرفة التراكمية والتجارب الإنسانية القاسية ويُنظر إليها بوصفها معياراً للاستحقاق الوظيفي وشاهداً على المكانة الاجتماعية مسخت في عالم فاشنيستا الثقافة، فحل محل المؤهلات العلمية وخبرات التخصص المعرفي، عروض الأزياء الفكرية، حيث حلَّ المؤهل الجسدي مكان المؤهل الذهني، والشكل محل الروح، وحلّت الشهرة بدلاً من المعرفة، والهاتف بدلاً من الكتاب، والإعلام محل الجامعة، والقاعدة الشعبية بديلاً عن السجل الأكاديمي، والظهور الإعلامي محل المجلات العلمية، وحلَّ الموضوع مكان الذات، وأضحت تعاملات السوق بديلاً لمداولات ومهارات التفكير. وفي سياق هذه التحولات اللاعقلانية تحولت بنات الأفكار الشرعية الناتجة من العصر الذهني المضني للعقل البشري، إلى بائعات هوى غير شرعيات أنجبن سفاحاً من عالم الشهرة والتفاهة والضحالة المعرفية، وهو الأمر الذي أدَّى إلى إسقاط هيبة الثقافة، وإهدار مدونات القيم الأخلاقية الحاكمة للمعرفة العلمية، وإطاحة مركزية العلم، فلم يعد هناك فارق جدي وحقيقي في درجات الوعي بين المثقف التقليدي الحقيقي والمثقف التويتري المزيف.
وقد كان من الواجب على مثقف الكتاب أو المثقف التقليدي أن يتمسك بتلابيب كلاسيكيته المعرفية، وأن يجاهد في سبيل رفع مستوى الوعي النقدي بين الجماهير، والعزوف عن الشهرة الافتراضية، لا القبول بشروط الانحدار التدريجي إلى مستوى وعي مثقفي الاتجاه التسويقي، وذلك من خلال الحفاظ على عنصري التمايز والاستقلالية التي توهب للمثقف هيبة الفكر الموضوعي ووقار التنوير والمعرفة، والتي تتناقض مع انجراف كثير منهم نحو معايير الاتجاهات التسويقية كزيادة أعداد المتابعين في «تويتر»، وتضخيم عدد التغريدات، والرغبة العارمة في تنمية القدرة الذاتية على جذب انتباه الجماهير، والانخراط في نقاشات عبثية ومبتذلة من أجل الحصول على اعتراف الجمهور بالعمق المعرفي حتى أصبح الهاجس الحقيقي لدى المثقف التقليدي المتحول: (كم يقرأ، لا من يقرأ)، (ما القيمة السوقية للفكرة المطروحة، لا أهميتها كمنجز إنساني)، (ما رأي المتابعين، بدلاً من المحكمين).
وقد غاب عن المثقف التقليدي أو مثقف الكتاب أن من أهم سمات مثقفي التوجهات الاستهلاكية أو مندوبي مبيعات الفكر قدرتهم الفذة على تحويل الفراغ الذي كان مادة العقل وباعثاً ملهماً للإبداع الثقافي إلى مادة استهلاكية، وبسبب ذلك لم تعد معالم الطبيعة مادة للإلهام والتأمل بقدر ما أصبحت فرائس للترقب والتصيد ومادة قابلة للمقايضة والبيع والشراء والتبادل التجاري. وبدلاً من أن تبحر حاسة النظر والتدبر العقلي في أرجاء الطبيعة الواسعة والفسيحة لتفرج عن أفكار حالمة كعصافير الصباح، اعتقلت عدسات الكاميرا صور الطبيعة وملامحها بين قضبانها فخرجت الحياة من سطحها المحدب كالأفعى الجائعة التي تلتهم كل ما يصادفها في ظلمات الليل البهيم. وفي هذا السياق مسخ المثقف التقليدي إلى مجرد أداة استهلاكية وعبداً مطواعاً لآلات التصوير الرقمي، بدلاً من أن يكون سيداً عليها. وغدت مساحات العدسة الإلكترونية هي من تحدد له هويته، وقوالبه الجسدية، وزوايا الرؤية والملاحظة، وهامش الوقت المتاح، ورصيد العمر المتبقي، وشكل وماهيّة الطبيعة الحية، ومادة الحياة القابلة للابتلاع والاستهلاك.
والأسوأ من ذلك كله أن المثقف التويتري، أو مندوب مبيعات الفكر أمسى يتقمص الدور التنويري والاجتماعي للمثقف التقليدي. فبسبب ما امتلكه الأول من قوة معرفية مزيفة زودته بها «تويتر» وشركات الدعاية والإعلان، ازداد توهمه باستحقاقه الفكري في تحديد القيم والمعايير الاجتماعية العامة التي تحدد معايير النجاح والفشل، والقيم الوطنية، وقواعد الخيانة العظمى، بل ذهب أبعد من ذلك، بإخضاعه القيم الدينية، والأبحاث العلمية، وماهية السعادة، والعلاقات الإنسانية، ومعايير الصواب والخطأ إلى قيم سوقية وتجارية، فلم يعد الإنسان غاية في ذاته، بل مجرد وسيلة لتحقيق غايات كمية ومجردة أعلى منه. ومن السمات الإضافية لتلك الشخصيات التويترية والتي ينبغي أن يأنف منها المثقف الموضوعي والجاد: الجمود الفكري، والفكر التبريري لا النقدي، والإفراط المبالغ في تمجيد الذات، والثقة المفرطة بالنفس، وقابلية التكيّف السريع، وتقديم المصلحة على المبدأ، والعرق على الإنسان، وقياس المشاعر الإنسانية والحياة والحب والعاطفة وفق معايير المادة والسوق. باختصارٍ شديد؛ أهم ما أنتجته الرأسمالية المعاصرة ليست النظريات الحديثة للإنتاج والاستهلاك، أو تضخم الثروات، أو التكنولوجيا المتقدمة، بل نمط (الشخصية التويترية) أو نمط (مندوب مبيعات الفكر أو فاشنيستا الثقافة) التي مسخت صور الحياة، والطبيعة، والعلم، والقيم الإنسانية إلى صور مادية، ومعادلات رقمية، وصيغ إحصائية، وأخضعت كل العلاقات الإنسانية إلى آليات العرض والطلب، وعلاقات الزمالة والصداقة إلى قواعد المصلحة الضيقة والمنافع الوقتية. وهذا الشكل الخاص من التفكير الأناني الذي يقاس عليه النجاح والفشل الاجتماعي أسهم بشكلٍ أو بآخر في مسخ المكون الإنساني البسيط إلى كائنات آلية، افتراضية، متوحشة، وعدوانية، وآلية في التفكير والتصرف، تحكمها قواعد المصلحة والأنانية، والفرص الوظيفية، والصيغ الانتهازية، ولا يوثق سلوكها إلا قواعد القوة والقانون بسبب تآكل الثقة الاجتماعية وغياب منظومة القيم الأخلاقية الداخلية التي تحكم علاقاتها بالآخرين.
والحقيقة المحزنة هي بتكيف تلك الشخصيات مع منطق السوق القائل: (أنا أُباع وأشترى، إذن أنا موجود)، لأنَّ شرط الوجود لديهم لا ينبع من الخصوصية والكرامة الذاتية والكبرياء الشخصية والقيم الإنسانية الكلية، بل ينبع من واقع أن تلك الشخصيات استباحت خصوصياتها الذاتية للفضاء العام والأحكام الأخلاقية للجماهير، واقتناعهم بأنَّ محددات شروط التفوق والإنجاز الثقافي يكون بقابلية الذات الإنسانية للمقايضة والبيع والشراء، وانبهار وعي القطيع، ومراكمة رأس المال، وزيادة أعداد المتابعين، وتسجيل علامات الإعجاب أو حتى النقد طالما كانت الشهرة هي الثمن النهائي، وبأنَّ السعادة القصوى هي في تكديس أرقام وهويات وهمية توهم بتضخم غريزة الأنا والاعتداد بالنفس ولو كان على حساب خداع الضمير، وشراء الحقيقة والثقافة وبيع القيم الإنسانية كلها.
وأخيراً لا أبالغ إن زعمت أنَّ تلك الأنماط الشخصية هم صناعة إلكترونية أو كائنات ورقية تذروها رياح السوق حيثما شاءت، بعد أن تجردوا من المكون الطبيعي لمادة الإنسان ومقولاته. وللأسف فقد خلقت منهم وسائل التواصل الاجتماعي وتويتر أبطالاً في معارك الثقافة الخاسرة. ولو استعضت عن متغير المال كمحرك للسلوك الإنساني في فلسفة ماركس، لوجدت أنَّ (تويتر قد حول الإخلاص عند هؤلاء إلى رذيلة، والرذيلة إلى فضيلة، والعبد إلى سيد، والسيد إلى عبد، والجهل إلى عقل، والعقل إلى جهل، وبتويتر تشترى البسالة، فيصبح الشجاع جباناً، والجبان شجاعاً) ولربما أضيف إليها أنَّ «تويتر» قد حول (الخائن مواطناً، والمواطن خائناً، والتافه مثقفاً، والمثقف تافهاً) وعلى ضوء اختلالات تلك المعايير المتناقضة والمزدوجة سيكون من الحصافة للمثقف الجاد أن يزهد في الشهرة، ويعزف عن اتباع غريزة القطيع، وأن ينأى بالذات والروح النقدية الحرة عن كل قيود السلطات المجهولة للشركات الكبرى، وشركات الدعاية والإعلان وما تنتجه تخصصات إدارة الأعمال والتسويق من أنماط للشخصية مشوهة وموجهة بالنماذج الاستهلاكية والشرائية للمعرفة والقيم الأخلاقية والإنسانية.