في الوقت الذي تناضل فيه كثير من دول العالم للحصول على لقاحات ضد مرض «كوفيد - 19»، بدأت حفنة من الدول الثرية تواجه مشكلة تمثل العكس تماماً. على سبيل المثال، نجد أنه على الرغم من وجود برنامج تطعيم مجاني سهل الوصول إليه متاح أمام جميع البالغين منذ أبريل (نيسان)، حصل فقط ما يزيد قليلاً على 10 في المائة من سكان هونغ كونغ، البالغ إجمالي عددهم 7.5 مليون نسمة، على جرعتي اللقاح كلتيهما، مع انخفاض معدلات الإقبال على تلقي التطعيم حتى بين السكان الأكبر سناً. وثمة قدر كبير من التردد في أوساط المقيمين في هونغ كونغ إزاء تلقي اللقاح لدرجة أن نصفهم فقط أشار إلى نيته تلقي اللقاح.
وبسبب مزيج من العوامل، المتمثلة في وجود فوضى سياسية، وغياب الثقة في الحكومة، والنجاح في إبقاء أعداد الإصابات منخفضة، تحولت هونغ كونغ إلى نموذج استثنائي، بل متطرف، في التردد تجاه الحصول على اللقاحات، مقارنة بسنغافوره وماليزيا.
ومع ذلك، لا يقتصر هذا الوضع بأي حال على هونغ كونغ، وإنما ثمة توجه عام في أوساط الدول الثرية يشير إلى انتقالها من مرحلة نقص اللقاحات إلى اللامبالاة، وذلك قبل وقت طويل من تلقي عدد كاف من السكان للتطعيم، على نحو يسمح بإعادة فتح المجال العام بأمان.
وهنا، يفرض تساؤل نفسه حول كيف يمكن للحكومات دفع السكان نحو الحصول على التطعيم إذا ما اتضح أن الحوافز النقدية أو الوجبات المجانية، أو حتى إمكانية السفر الدولي، غير كافية للوصول إلى مناعة القطيع الضرورية لحماية الجميع التي تتطلب معدل تطعيم يبلغ نحو 70 في المائة أو أكثر.
من غير المريح أن ندعو إلى التطعيم الإجباري، حتى في وقت تسببت فيه الجائحة بتدمير عائلات بأكملها بمختلف أرجاء العالم. ومع هذا، فإننا إذا أخفقنا في الوصول لمستويات أفضل بعد توافر اللقاحات على نحو كامل مجاني، فإنه حينها ربما لا يكون هناك مفر من فرض درجة معينة من الإجبار. في هذا الموقف، تبدو المنافع عظيمة للغاية، بينما المخاطر والتضحيات المطلوبة من المواطنين تكاد لا تذكر.
من جهتها، تقدر السلطات في إنجلترا أنه بحلول نهاية أبريل (نيسان) الماضي، نجحت اللقاحات في الحيلولة دون وقوع 11.700 وفاة بين من يبلغون الـ60 أو أكثر. وبطبيعة الحال، يزداد هذا التقدير أضعافاً مضاعفة على الساحة العالمية.
ومن ناحية أخرى، عادة ما تعمل الصحة العامة على نطاق متدرج من تدخل الدولة. ومن جانبه، يطلق «مجلس نافيلد لأخلاقيات علم الأحياء» (نافيلد كاونسيل أون بيوإثيكس) داخل المملكة المتحدة على هذا الأمر سلم التدخل الذي يتراوح من «عدم فعل شيء» (أي نمط الحد الأدنى من التدخل الذي يفضله كثيرون) وصولاً إلى «إلغاء الاختيار».
اليوم، ما نزال عند نقطة ما من الدرجات السفلى فيما يخص اللقاحات ضد مرض «كوفيد - 19» التي ما تزال في تزايد. وفي الوقت الحاضر، يجري توفير معلومات وإقناع المواطنين وتيسير حصولهم على اللقاحات. ومع ذلك، من الواضح أننا نتحرك بسرعة نحو النقطة التي سيبدأ المسؤولون عندها في توجيه اختيارات الأفراد من خلال توفير حوافز نقدية، وما إلى ذلك.
وخلال الأيام الأخيرة، دار حديث داخل هونغ كونغ حول توفير اللقاحات داخل أماكن العمل من أجل تيسير حصول الموظفين عليها. وداخل الولايات المتحدة، أعلنت ولاية أوهايو عن يانصيب يضم جوائز نقدية بقيمة مليون دولار، في الوقت الذي تعرض فيه نيوجيرسي مشروبات مجانية لتحفيز الأفراد على التقدم للحصول على اللقاح. أما ويست فيرجينيا، فتستهدف الشباب بسندات ادخارية بقيمة 100 دولار.
وفي سياق متصل، تعهدت صربيا بتقديم 3 آلاف دينار صربي (31 دولاراً) لكل مواطن تلقى التطعيم، لتصبح بذلك واحدة من أولى الدول التي تقدم حوافز نقدية.
بيد أنه للأسف الشديد من غير المحتمل أن تفلح جهود التشجيع في دفعنا جميعاً في طريق اكتساب مناعة القطيع. إذن، ما الذي سيحدث حينها؟ بخلاف أصحاب الأعمال الذين ترتبط بهم حجج مختلفة، هل من المقبول من حكومة ما فرض اللقاح إجبارياً، وربطه بالسماح بنشاطات مثل تناول الطعام خارج المنزل أو حتى ارتياد المدرسة، مثلما يحدث بالفعل فيما يخص تطعيم الأطفال في كثير من المناطق؟ الحقيقة أن اللقاحات النعمة الكبرى على صعيد الصحة العامة بعد الماء النظيف، فهل ينبغي لنا التفكير الآن في اتخاذ توجه أكثر صرامة إزاء توزيع اللقاحات؟
بالتأكيد، ليس من السهل اللجوء إلى الإجبار الكامل الذي ينطوي على فرض غرامات، بل الحبس أحياناً. وفي اعتقادي، لا يرتبط هذا الأمر بالحرية الشخصية، بقدر ما يرتبط بحالة الاستقطاب الشديدة التي تعانيها كثير من المجتمعات، بما في ذلك الولايات المتحدة. وعليه، فإنَّ فرض الإجبار الكامل من شأنه التسبب في تفاقم حالة الاستقطاب. إضافة لذلك، فإنَّ بعض الأسباب التي تردع الأفراد عن الحصول على اللقاحات، عدم الثقة بالسلطات الصحية أو السياسية أو مشكلات صحية أخرى أكثر إلحاحاً، تستحق تناولها، بدلاً عن محاولة تجاهلها وإخفائها.
إلا أن مبدأ الضرر يوحي كذلك بأنَّ التدخل يصبح ضرورياً عندما يكون هناك خطر حقيقي أو محتمل بتعريض آخرين للإصابة، والضرر هنا هائل -خاصة أن 3.4 مليون شخص فقدوا أرواحهم بالفعل حتى اليوم. والآن، تتوافر اللقاحات التي باستطاعتها الحيلولة دون وقوع الغالبية الكاسحة من هذه الوفيات أمام أعداد أكبر بكثير من الأفراد، بينما يتسم عامل الوقت هنا بأهمية جوهرية.
ومع أنَّ هذا لا يعني بالضرورة اللجوء إلى الإجبار، فإنَّه ربما يعني هذا بالفعل. جدير بالذكر في هذا الصدد أنه منذ ما يزيد على قرن، دعمت المحكمة العليا الأميركية قانون ماساتشوستس الذي سمح للمدن بإلزام المواطنين التطعيم ضد الجدري.
وتتمثل حجة أخرى داعمة لفرض التطعيم فيما طرحه ألبرتو غيبيليني، من جامعة أكسفورد، الذي يقول إنَّ التطعيم مثل الضرائب، وإنَّ الحماية من مرض مثل «كوفيد - 19» تشكل نفعاً عاماً يخلق التزامات يمكن للدولة فرضها علينا.
في الواقع، لم نبلغ نقطة الإجبار بعد، ونأمل ألا نصل إليها، لكن إذا قبلنا بفكرة أن مرض «كوفيد - 19» أمر ينبغي لنا العمل على السيطرة عليه قبل ظهور تحورات جديدة أخطر، فإنَّ ثمة جدالات أخلاقية ينبغي لنا خوضها حول هذا الأمر.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»
9:8 دقيقة
TT
ماذا يحدث عندما لا تكون حوافز التطعيم كافية؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة