إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

نهاية مؤسفة لمغامرة فرنسا اللبنانية

لم يخيّب وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان ظن الذين توقّعوا أن تنتهي زيارته «التحذيرية» السريعة إلى لبنان بالشكل الذي انتهت به، إذ ليس ما هو أصدق من الحكمة القائلة: «فاقد الشيء لا يعطيه».
لقد ثبت بالدليل المحسوس أن ليس لباريس ما تعطيه، ما دام لديها تعريفان مختلفان للتطرّف الديني والمذهبي، وتعريفان للاحتلال، وتعريفان للسيادة، وتعريفان لحق الشعب في الحياة الكريمة، وتعريفان للفساد، وتعريفان للتآمر على التعايش وبناء دولة المؤسسات.
يستحيل أن تحقق اختراقات أو توحي بالثقة سياسة رسمية تتخفّى خلف إصبعها دفاعاً عن بقاء سلاح ميليشياوي غير شرعي بحجة أن حامله يحظى بتمثيل انتخابي. وغريبٌ تجاهل العلاقة الجدَلية بين الاحتفاظ الحصري بهذا السلاح - الذي استخدم مراراً في الداخل - وبين «الانتصارات» الانتخابية المؤزّرة، ونسف مقوّمات الدولة، وتسييس القضاء، وتشريع الأبواب والحدود أمام كل أنواع التهريب، وتشريد المواطنين بفعل مغامرات «تحريرية» تقطع أرزاقهم.
خلال زيارتَي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للبنان بعد تفجير مرفأ بيروت، وطرحه مبادرته التي تفاءل «طيبو القلب» بنجاحها، فإنه التقى جميع ممثلي المكوّنات اللبنانية، وتصرّف معهم كناظر مدرسة حازم. ولفترة قصيرة بعد الزيارة الأولى، تعامل «الممثّلون» بقدر من الجدّية مع مبادرة الضيف الفرنسي، من جهة لأنهم ما كانوا متأكدين من مدى جديّته في الحسم، ومن جهة أخرى من حجم «التفويض» الأميركي المُعطى له... إن كان يحمل تفويضاً. ولهذا، وافقوا على حكومة جديدة برئاسة دبلوماسي شاب من خارج الطبقة السياسية يتمتع بثقة باريس.
غير أن الأمور خرجت عن السيطرة بعد ذلك. إذ نجح هؤلاء الممثّلون في «تنفيس» المبادرة الفرنسية والالتفاف عليها بعدما اكتشفوا هشاشتها، وحقيقة «الدور الأميركي» فيها. وهكذا، اعتذر رئيس الحكومة المكلّف مصطفى أديب، وعادت حكومة حسان دياب - الملقبة بـ«حكومة حزب الله» - إلى تصريف الأعمال.
وبطبيعة الحال، كان «حزب الله» - ومعه واجهته المسيحية التيار الوطني الحر (التيار العوني) -، الذي هو الفريق الأقوى والأكثر تمرّساً في التعطيل والأشد طمعاً في الهيمنة وإلغاء الآخرين، غير مستعد لتقديم تنازلات لفرنسا. فلماذا يقدّم تنازلات لمن «لا يحل ولا يربط» أمام خلفية حملة انتخابات رئاسية أميركية تتراجع فيها أسهم الرئيس الجمهوري دونالد ترمب أمام جو بايدن، مرشح الديمقراطيين، و«وريث» سلعة عهد باراك أوباما، المتودّدة أبداً لطهران وحرسها الثوري؟
لقد راهن هؤلاء - وكانوا على حق - على أن لا حاجة لتقديم تنازلات موجعة لباريس إذا كانت آفاق المستقبل مشرقة في واشنطن يتشوّق «بيتها الأبيض» لإعادة التقارب مع حكام إيران، وغضّ الطرْف عن سلوك «ودائعها» التوسّعية في 4 دول عربية. ومن ثم، في خطوة بدت ظاهرياً وكأنها تجاوب مع المسعى الفرنسي وإعادة طمأنة للشارع السنّي، أعيد تكليف سعد الحريري تشكيل الحكومة بعد سنة تقريباً من استقالته تماشياً مع رغبة الشارع المنتفض في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، وكان لافتاً في تكليف الحريري تحمّس «الثنائي الشيعي» لذلك.
في الحقيقة كان دعم حركة «أمل» للحريري مفهوماً ومتوقّعاً، لأنه يعكس الموقف التقليدي «التصالحي» لزعيمها نبيه برّي رئيس مجلس النواب. أما «حزب الله» فحساباته في هذا الأمر مختلفة، لأنه في الأساس يتحرّك خارج معطيات الساحة اللبنانية، ومن مصلحته «تقديم سُلفة» للسنّة... من دون التخلّي عن واجهته المسيحية العونية. ومعلومٌ، أن التيار العوني سعى ولا يزال إلى نسف «اتفاق الطائف»، وتقزيم دور رئيس الحكومة السنّي، وإعادة بناء لبنان وفق ميزان قوى جديد يحكمه فعلياً سلاح إيران، ولكن في ظل رئاسة «بروتوكولية» مسيحية مارونية.
وكما نتذكر، بعد فوز بايدن في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أسنِد أمر الملف الإيراني في واشنطن إلى روبرت مالي، وعُيّن وليم بيرنز مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه). وهكذا، أخذت تتبدّل المعطيات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط عموماً، وفي لبنان على وجه الخصوص. ثم تسارعت قوة الدفع أكثر مع انطلاق «مفاوضات فيينا» للعودة إلى الاتفاق النووي، وإعلان واشنطن عن أولوياتها في كل من اليمن والعراق وأفغانستان، وتخفيفها الضغط على نظام بشار الأسد في سوريا.
في هذه الأثناء، عادت المُطالبات التعجيزية من التيار العوني - المُغطّى من «حزب اللّه» - لتعطّل جهود الحريري ومساعيه من أجل تشكيل «حكومة مهمة» غير سياسية، كما طالبت باريس خلال زيارتي ماكرون لبيروت. ومجدّداً، راهن الحريري على ما اعتبره التزاماً من الرئيس الفرنسي تجاهه. كذلك، لاح له أن حظوظه تحسنّت مع تزايد دعوات البطريرك الماروني بشارة الراعي لحياد لبنان، واعتبر أنه في معركته مع عون - الساعي إلى إلغائه - كسب جزءاً لا يستهان به من الشارع المسيحي الماروني ممثلاً بالبطريرك.
ثم إن الحريري تجاهل نصائح صديقة له بالتخلّي عن التكليف من منطلق أن من بيَدهم الأمر في لبنان - أي «حزب الله» وعون - لن يسمحوا له بأن يحكم، وأن العواصم الكبرى لن تخوض من أجله معارك سياسية أو عسكرية ضد إيران وأتباعها الإقليميين. ولكن، فقط في الفترة الأخيرة شعر الحريري بأن رهانه ما عاد مضموناً، بل شعر - أو أُشعِر - بأن باريس الممتنِعة عن مواجهة «حزب الله» ومعاقبته، مستعدة لمعاقبة تياره «تيار المستقبل»، جنباً إلى جنب مع التيار العوني، بتهمة «تعطيل تشكيل الحكومة»!
وبالأمس، رسّخت زيارة وزير الخارجية الفرنسي وتردّداتها... هذا الاقتناع عند كثيرين.
للأسف، آن الأوان للإقرار بأن ليس لباريس في عهد إيمانويل ماكرون أي حلّ يرتجى لإنهاء معاناة اللبنانيين وإنقاذ بلد كان «رومانسيّوه» يعتبرون فرنسا «أمه الحنون». وكذلك، الإقرار بأن فهمها لأزمات المنطقة، وأولوياتها المكشوفة، وأسلوبها في التعامل مع هذه الأولويات حقائق غير مشجعة أصلاً على توقّع حلول، بل حتى مقاربات عملية.
إن الفشل حتمي عندما نتذكّر كيف قادت باريس خلال السنوات الأربع الأخيرة الجهود الأوروبية للتقارب مع الحكم الإيراني والعودة اللامشروطة إلى الاتفاق النووي. وحتمي أيضاً لدى ملاحظة كيف تجاهلت تكراراً لبّ الأزمة في لبنان وهوية الجهة المسؤولة عنها...
ثم يأتي «ديدبان» الدبلوماسية الفرنسية ليقرّع هذا وذاك من ساسة ضعفاء في بلد «محتل» واقعياً بقوة السلاح، متغاضياً عما يعنيه هذا «الاحتلال» وما سيفضي إليه.