د. ياسر عبد العزيز
TT

كيف تربح معركة نصفها في الإعلام؟

«القوة الناعمة» مفهوم يحظى بكثير من الاهتمام، وقد أرساه جوزيف ناي، بروفسور العلوم السياسية في جامعة هارفارد الأميركية، في بحث نشره في دورية «السياسة الخارجية» عام 1990، تحت عنوان «القوة الناعمة: استخدام الجاذبية والإقناع لتحقيق أهداف السياسة الخارجية للدولة».
لقد سعى ناي إلى شرح مفهوم «القوة الناعمة»، فقال إنها «قدرة الدولة على تحقيق الجذب والتأثير من دون إجبار وإكراه»، وبمعنى آخر فهي «قدرة الدولة على خلق مطاوعة لإرادتها وسياساتها لدى الآخرين عبر الإقناع، ودون حاجة إلى القوة الصلبة».
وحقاً، فإن «القوة الناعمة» مفهوم سياسي بامتياز؛ وهي أمر يخص الدولة بقدر ما يخص المجتمع، ولا يمكن لها أن تعمل خارج نطاق إرادة الدولة وأهدافها. وهي تمتزج مع «القوة الصلبة» لتشكيل «القوة الشاملة» للدولة، كما أن توظيفها بحصافة مع شقيقتها «الصلبة» يُنتج ما وصفه ناي لاحقاً بـ«القوة الذكية».
وعلى عكس ما يعتقد كثيرون فإن مفهوم «القوة الناعمة» بات يخضع لمؤشرات عديدة لقياسه وتعيينه تعييناً منضبطاً، وبعض هذه المؤشرات يتضمن عناصر مختلفة. ويصل عدد هذه العناصر، وفق ناي، إلى 75 عنصراً ضمن ست مجموعات، هي: الثقافة (متضمنة الإعلام)، والتكنولوجيا، والتعليم، والدبلوماسية، والاقتصاد، والسياسة.
وبين المحاولات الجادة التي حاولت أن ترسي معايير لقياس «القوة الناعمة» تلك المحاولة التي أثمرت «مؤشر بورتلاند»، وهو مؤشر طوّرته مؤسسة بحثية أميركية معروفة بمساعدة عدد من الباحثين في أهم الجامعات الغربية. ويحدّد المؤشر ستة عناصر لقياس «القوة الناعمة» في أي دولة، ويبرز بينها مفهوم «النفاذية الثقافية» التي تتضمن الإنتاج الإعلامي، والتواصل الرقمي للدولة.
يتضّح لنا إذن أن الإعلام يحتل مكانة مميزة في قلب مفهوم «القوة الناعمة»، بسبب قدرته الفائقة على صناعة الرأي العام وتشكيله. وقد حاول ناي أن يصوغ العلاقة بين الإعلام والرأي العام، فقال إن «المعارك لا يمكن أن تُربح فقط في ميادين القتال، بل إن الكاسب في الحرب هو ذلك الذي تربح قصته في الإعلام». وببساطة شديدة، فإن هذه العبارة تعني أن تصوّرات الجمهور عن الأحداث كثيراً ما تقوم مقام «الحقيقة» مهما كانت بعيدة عنها؛ وهو ما جعل كثرة من الناس يؤمنون بالقول الغربي السائر «Perception Is Reality» أي «التصوّر هو الواقع».
يأخذنا هذا الأمر إلى الدور المتصاعد للرأي العام في صنع السياسات ورسم الصور الذهنية للدول والحكومات والقادة؛ وهو دور بات يحتل أهمية كبرى ضمن آليات صنع القرار في مختلف الدول. ويتفق باحثو الاجتماع والعلوم السياسية على أن وسائل الإعلام تلعب دوراً بارزاً في بلورة تصوّرات الأفراد والجماعات، وعمليات التغيير الاجتماعي، وصياغة الأفكار والتمثّلات الذهنية، التي تتحوّل لاحقاً إلى دوافع وممارسات سلوكية.
ويبدو أن هذا الأمر تدركه الجماعات والتنظيمات الإرهابية كما تدركه الحكومات تماماً؛ ففي يونيو (حزيران) من عام 2005، أراد الدكتور أيمن الظواهري -الرجل الثاني في تنظيم «القاعدة» آنذاك- أن يقدم النصح إلى أبي مصعب الزرقاوي، زعيم التنظيم في العراق في ذلك الوقت، فبعث إليه برسالة جاء فيها قوله «وتذكر دائماً يا أخي أن نصف معركتنا في الإعلام».
وفي هذا الصدد، يؤكد الخبير الأميركي غراهام رامسدن، أن «الدراسات العلمية أثبتت أن التغطية الخبرية للعمليات الاجتماعية المختلفة تؤثر في اتجاهات الجمهور وربما تقوده إلى اتخاذ قرارات ودعم أو رفض سياسات بعينها». وهو أمر أقره علماء بارزون مثل لازويل وشرام، اللذين أكدا أن تأثير وسائل الإعلام في الأفراد والمجتمعات يعد «حقيقة من الحقائق الثابتة»، وأن «هناك علاقة سببية بين التعرض لوسائل الإعلام والسلوك البشري».
وللتدليل على تلك الأهمية الفائقة، يقول الكاتب الأميركي فيليب سيب، في كتاب أصدره عام 2006، واستهدف تحليل تداعيات الغزو الأميركي للعراق: «لا تُخاض معركة كسب العقول والقلوب في منطقة الشرق الأوسط في شوارع بغداد فقط، بل في نشرات الأخبار وبرامج (الجزيرة) الحوارية»، كما خلص إلى أن الأساليب التقليدية لصنع السياسة الدولية «قد تم تجاوزها بفعل تأثير الإعلام الجديد والبث الفضائي وأدوات أخرى عالية التقنية».
لتلك الأسباب مجتمعة، رأت الدول العربية المعتدلة أن ترك الأمر لـ«الجزيرة» وشقيقاتها للاستفراد بالساحة وكسب عقل الجمهور العربي وقلبه، سيؤدي إلى عواقب وخيمة، وبناءً عليه لم تقف أمام ذلك مكتوفة الأيدي، بل سارعت إلى التمركز والتمدد باحترافية وحصافة في هذا الفضاء الفسيح والمثير والمُعقد في آن.