ها هي هجمة فيروس «كورونا» الثانية باتت تواجه الناس في مجتمعات العالم كافة، بل بين الدول من وقع في قبضة ثالث هجمات الوباء القاتل، كما إيران. من جهتها، عانت إسرائيل كذلك موجة انتشار سريع للفيروس جعلها تتشدد في تطبيق إجراءات إغلاق تام. وصول ثاني الهجمات أعاد التذكير بمسؤوليات أخلاقية تثيرها سُبل المواجهة. أعود إلى هذا الجانب لاحقاً. السؤال الملح؛ هل من حلول فورية؟ كلا، بالطبع، ولا سحرية أيضاً. يزيد الحال سوءاً غياب إجابات ترد بما هو مقنع جداً على تساؤلات كثيرة تحير أغلب الناس، باختلاف مستويات الوعي، وتباين درجات الثقافة. هذا الغياب يثير حنق كثيرين، وهو رد فعل متوقع، إذ أن الفرد، في مختلف الثقافات، ينتظر دائماً أن تؤدي الحكومات دور الأبوين، فتوفر الحل فور وقوع المُشكل، وإلا يبدأ التأفف، وربما الزعيق. إنما غير المطمئن هو أن تسود الحيرة داخل الحكومات ذاتها، وأن تؤدي إلى خلافات بين صناع القرار أنفسهم. خلال أواخر الأسبوع الماضي، ظهر هكذا خلاف بشكل واضح في عدد من العواصم، ومنها لندن.
على ماذا الاختلاف؟ بالدرجة الأولى، تتباين وجهات النظر بشأن مستوى التشدد في فرض قيود على الحركة. من جهة، ترى الجهات الطبية أن العودة إلى تقييد حركة الناس، بما يقترب من إغلاق تام، أمر ربما يفرض نفسه، بصرف النظر عما قد يترتب عليه من عواقب اقتصادية. الجانب الثاني، المتعلق بالوضع الاقتصادي، هو ما يقلق الطرف المعارض، الذي يرى أن العودة إلى الإغلاق الكامل، من شأنه تعريض الاقتصاد البريطاني إلى مزيد من الشلل، إضافة إلى ما يعانيه من تدهور متواصل منذ بدء أول إغلاق قبل أشهر. ريشي سوداك، وزير المالية في الحكومة البريطانية، يقف في مقدمة المعارضين لمزيد من إجراءات التشدد، رغم أنه من أهم حلفاء بوريس جونسون في الحكومة. بالمقابل، يرفض ماثيو هانكوك، وزير الصحة، إلزام نفسه باتخاذ موقف أقل تشدداً، رغم كونه أيضاً من أخلص حلفاء بوريس جونسون، إذ يعتقد أن غياب الالتزام الجماعي فيما يخص تنفيذ مسافات التباعد الاجتماعي، وتحديداً فيما يتعلق بسلوك فئات الشبان والشابات، سواء في الجامعات أو الأماكن العامة، لعب دوراً في سرعة تزايد انتشار الفيروس. بدا هانكوك حازماً حين قال الأحد الماضي إن بريطانيا وصلت إلى «نقطة حرجة»، ورغم أنه «غير راغب»، في عودة الإغلاق التام، لكنه «لا يستطيع استبعاده» تماماً. بالطبع، سوف يحاول بوريس جونسون، كما كل سياسي محنك، التوفيق بين وجهات النظر المتعارضة، أو قل إنه سيجرب الوقوف في منتصف الطريق بين ريشي سوداك، وماثيو (اختصاراً: مات) هانكوك، وأيضاً كبار أعضاء المؤسسة العلمية التي تتعامل مع الجانب الطبي في مواجهة الوباء، مثل بروفسور كريس ويتي، كبير الأطباء في إنجلترا، والسير باتريك فالانس، كبير العلماء الاستشاريين.
واضح أن بريطانيا تخوض الصراع ضد فيروس «كورونا» فيما تتصارع وجهتا نظر بشأن كيفية المضي على مختلف جبهات إدارة الصراع. هناك من يريد تقديم تعافي الوضع الاقتصادي. وهناك من يقول إن عافية البريطانيين هي الأهم. الواقع أن اختلافا كهذا ، ليس مقتصراً على المملكة المتحدة، بل هو موجود في بقاع عدة من العالم. كلا التوجهين، بالطبع، له أنصاره الذين بوسعهم سوق الكثير من الحجج العلمية، أو الذرائع الاقتصادية ذات العلاقة بأوضاع الأسواق العالمية، والغرض، دائماً، هو الاستناد إلى منطق علمي يدعم النهج الذي يدافعون عنه. يحدث هذا في دول العالم الصناعي المتقدم علمياً، وتقنياً، بلا كثير حرج، بل هو مطلوب، إذ من شأنه إعادة تذكير المجتمعات بأهمية التزام المسؤولية الأخلاقية، في الأحوال كافة. أما في أماكن مختلفة بأقاصي الأرض وأطرافها، فقد نجح الوباء، إنْ في موجته الأولى، أو الثانية، وربما سينجح خلال الآتي من الموجات، في حصد أرواح كثيرين بلا كثير ضجيج حول أساليب المواجهة. هناك يموتون بصمت. الأرجح أنهم راضون بما قُسِم لهن ولهم. لكن ذلك الرضى لن يحجب حقيقة كم فتح وباء «كوفيد19» أبصار الناس على فارق الهوة بين أناس يحرصون على وضع المسؤولية الأخلاقية موضع التطبيق حتى حين يتعلق الأمر بصالح المجتمع ككل، وبين أنانية أشخاص يقدمون مصالح النفس على الكل، بأي ثمن، وأياً كان الظرف.
TT
مسؤولية «كورونا» الأخلاقية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة