لا شكَّ أنَّ العلاقة الجدلية بين حركة الإخوان المسلمين وتوازن القوى الإقليمي يتضح جلياً عندما لعبت دوراً محورياً في مؤسسات تشكيل الوعي الجمعي داخل السعودية، التي وفرت لتلك الحركة كل الموارد والإمكانيات المادية والرمزية لإنتاج خطاب عقلاني يخدم بقاء النظام واستقراره السياسي داخلياً، ويحافظ على مكانته المركزية في توازن القوى على الساحة الإقليمية والدولية منذ ستينات القرن المنصرم وحتى أواسط التسعينات.
وبطبيعة الحال فإن استقرار النظام السعودي الداخلي كان من المفترض أن ينعكس بدوره على المكانة المركزية للمملكة كلاعب رئيسي محافظ يكرس طاقاته وإمكانياته للحفاظ على قانون توازن القوى المحكوم آنذاك بالقطبية الرباعية، المسيطرة على بنية المنظومة الإقليمية العربية (السعودية، مصر، العراق، سوريا). بيد أنه في طليعة التسعينات بدأت أولى تجليات خلخلة توازن القوى خارجياً بتهميش القوة العراقية، وداخلياً بتعبئة حركات التمرد التي قادتها رموز جماعة الإخوان المسلمين، وتيار الصحوة عند استدعاء الحكومة السعودية للقوات العسكرية الأميركية والغربية.
وبإهدار مقدرات القوة العراقية وفشل الدولة السورية، وتوظيف الموارد القومية لكلتا الدولتين في خدمة المصالح الإيرانية، وحالة الشلل العام التي ضربت مؤسسات الدولة المصرية فيما بعد «الربيع العربي»، أضحت الحكومة السعودية تعيش هاجس إعادة إنتاج توازن القوى في صيغته المحافظة، خشية انهيار المنظومة الإقليمية بكل مكوناتها ومواردها المادية ورأسمالها البشري. وفي ضوء هذه التناقضات البنيوية لعب الإخوان دوراً دراماتيكياً في خلخلة توازن القوى وتغيير قواعد اللعبة السياسية التي تدار بمنطق الدولة إلى بيئة استراتيجية غير فاعلة قوامها اللادولة التي تحكم بالميليشيات والفصائل العسكرية، وبتعدد قوى ما دون الدولة. وقبل تدخلات النظام الإردوغاني بالمنظومة الإقليمية في وقت لاحق، كانت الدوحة قد سبقتها في تعظيم أرباحها وتكديس مصادر قوتها، والتي ستعمل بواسطتها على خلخلة توازن القوى.
تاريخياً، ومنذ انقلاب قصر الوجبة الأميري عام 1996 كانت تختمر سلسلة من الاستراتيجيات القطرية التي تهدف إلى خلخلة توازن القوى المحافظ، وتغيير قواعد اللعبة السياسية عبر مراكمة المزيد من عناصر القوة، وأول عناصر القوة التي أكسبت النظام القطري الانقلابي قوة وفاعلية حقيقية، هي استضافة بعض عناصر حركة الإخوان المسلمين وتبني خطابهم الإسلامي الوحدوي المتجاوز لحدود الدولة الوطنية. وقاد هذا التكتيك البطيء إلى استثمار هذه القوة الآيديولوجية كوديعة طويلة الأمد في «بنوك» السياسة القطرية إلى أولى محاولات المشاكسة القطرية للدولة السعودية، التي تشكل القطب الأكبر في المنظومة الإقليمية والخليجية ورمانة ميزان توازن القوى. وبعد أن ظفرت الدوحة بقوة دينية تعبوية خلعت على الانقلاب الجديد شرعية سياسية، تطلعت إلى تضخيمها بقوة النفوذ الأميركي بإنشاء قاعدة العديد، والتي ستغدو أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط وتدعيمها بالانفتاح والتطبيع مع دولة إسرائيل. ورغم تناقض مكونات القوة الأميركية والانفتاح على إسرائيل مع الشرعية الدينية على صعيد الخطاب الفكري التعبوي لحركة الإخوان والصحوة، وهو الحال الذي كانت تزايد عليه «الصحوة» سياسياً في الحالة السعودية، رغم مقاطعة الأخيرة لمؤتمر الجات المقامة بالدوحة، بسبب استضافة الأخيرة لإسرائيل في عام 2004. فإنَّ إيرادات الموارد النفطية الهائلة - التي تشكل العنصر الثالث من عناصر القوة القطرية - تمكَّنت من ترويض مكونات ذلك التناقض على مستوى سلوك الدوحة السياسي.
وفي الواقع، فإن المكونات المتناقضة للقوة القطرية (الإخوان المسلمين، النفوذ الأميركي، التطبيع مع تل أبيب، شرعية الإنجاز الاقتصادي) شجعت حكومة الدوحة باتخاذ خطأ مناوئ لسياسات الخارجية السعودية المحافظة على توازن القوى بصيغته التقليدية. وتجلت أولى تلك التناقضات المهددة لتوازن القوى في شق الإجماع الخليجي بتأييد حكومة صالح اليمنية في حربه الأهلية عام 1994، ودعم حزب الإصلاح الإخواني المعارض لصالح، التطبيع مع إسرائيل ودعم «حزب الله» عام 2006. تأييد الكفاح المسلح لـ«حماس» في الوقت الذي زار فيه العاهل القطري إسرائيل سراً، واستضاف رئيس الحكومة الإسرائيلية شيمعون بيريز في الدوحة علناً. وعزَّزت من روافد جملة تلك التناقضات توظيف موارد القوة الناعمة لقناة الجزيرة، التي كرست معظم ذخيرتها الإعلامية لمناكفة السعودية، وتضخيم دور الدعاية السوداء فيما يتعلق بالداخل السعودي، وتقديم الفرص والمنابر الإعلامية لمعارضتها بالخارج. ومنذ ذلك الحين وحكومة الدوحة توظف موارد قناة الجزيرة كأحد أهم أدوات سياستها الخارجية، لتقويض المكانة السياسية المركزية للمملكة في المنظومة الإقليمية، وتهديد الصيغة المستقرة لقواعد اللعبة السياسية وتوازنات القوى التقليدية. بل ذهبت أبعد من ذلك في تحقيق مشروعها التقويضي ومناكفة الدولة السعودية، عند صياغتها إطاراً مؤسسياً بديلاً ذا بعد دولي يتم من خلاله استيعاب اللاعبين الجدد من الإخوان المسلمين. فأنشأت (اتحاد العلماء المسلمين) برئاسة القرضاوي ليكون بديلاً لرابطة العالم الإسلامي، بهدف تقديم خطاب براغماتي أو عصراني متصالح مع تناقضات السياسة الخارجية القطرية، ويطرح نفسه في صيغة دينية يقول عنها - تضليلاً - إنها أكثر اعتدالاً وتسامحاً. ورافق استيلاء الدوحة على هذه القوة الناعمة التي شكلت أبرز روافدها الدين والإعلام، استنزاف بطيء وممنهج للقوة المفكرة للسعودية وطبقة الأنتليجنسيا المثقفة، إذ مُنحت الجنسية القطرية لبعض أساتذة الجامعات والمفكرين السعوديين، وفُتحت فرص وظيفية واسعة للكوادر المهنية السعودية في الجهاز البيروقراطي القطري.
تلك التحولات الاستراتيجية في السياسة الخارجية القطرية، أسهمت بشكل أو بآخر في تحويل قطر من دولة هامشية صغيرة في مساحتها الجغرافية، إلى أن تكون لاعباً في المنظومة الإقليمية عبر التدخل في مناطق النفوذ السعودي في اليمن ولبنان وسوريا والعراق، متمددة إلى خاصرة المحيط الأفريقي لمصر عبر تدخلاتها في السودان وليبيا وتونس. وتوج مجهودها التاريخي بمراحل هيمنة مؤقتة على صناعة القرار المصري عند وصول الإخوان المسلمين إلى قمة الهرم السياسي. كانت تلك المرحلة الحاسمة التي دقت ناقوس الخطر في ترتيبات توازن القوى وتغيير قواعد اللعبة السياسية لصالح تلك الدولة الصغيرة المتنامية على حساب الدولة السعودية الموازن الاستراتيجي الأكبر في المنطقة. وهذا التغير البنيوي في شكل توازن القوى ثنائي القطب الذي يهيمن عليه مصر والسعودية، هو ما يفسر سلوك السياسة الخارجية المباشر والمعلن - على غير عادة السياسة الخارجية السعودية - لدعم الرئيس السيسي في تلك المرحلة الخطرة على كل المنطقة والعالم.
صفوة القول من كل ذلك، من الصعب إنكار الجهد المضني للحكومة القطرية لإعادة ترتيبات توازن القوى بما يخدم أجندتها السياسية. وأنماط استقلالية القرار القطري عن الإجماع الخليجي والعربي في كثير من المواقف التاريخية يؤكد ذلك. ولذلك فمن غير المستبعد أن تعيد حكومة الدوحة إعادة إنتاج نفس السلوك السياسي عبر دعم منظومات وتكتلات بديلة عابرة للحدود، وستعيد ترتيب صيغة جديدة لقواعد اللعبة السياسية ضمن تلك المنظومة المحتملة، أو تشكيل تحالفات استراتيجية موازنة تهدد ميزان القوى ثنائي القطب المهيمن عليه من خلال القوة المصرية السعودية، والذي بدأ في التشكل في صيغة ثلاثية بعد بروز الإمارات كلاعب رئيسي وفعال في هذه المنظومة الإقليمية. ولعل مؤتمر كوالالمبور الإسلامي 2019. المتدثر بجلباب الآيديولوجيا الإخوانية، الذي حضرته قطر، وكان من المفترض أن تشارك فيها باكستان قبل قرار انسحابها، وضم لاعبين كبار جدد كإيران وتركيا وماليزيا، قد تكون الأكثر احتمالاً في تشكيل النواة التنظيمية الأولى في هذا المشروع الاستراتيجي. أو لربما قد يكون البديل الآخر متمثلاً في مشروع التحالف الثلاثي القطري التركي والإيراني، الذي يعمل وفق قواعد لعبة سياسية مختلفة قوامها تفكيك الصيغة الوستفالية للدولة الوطنية الحديثة. وإن كان استمرار هذا التحالف الثلاثي أقل توقعاً، نظراً لحجم التباينات والتناقضات الداخلية بين أعضائها، إلا أن على دول المقاطعة أن تعمل جدياً بتعظيم حدة تلك التناقضات، وتوسيع التباينات داخلها عبر توظيف كل التدابير الاستراتيجية المتاحة، من أجل الحفاظ على الديمومة النسبية لتوازن القوى التقليدي، وصيانة السلام والاستقرار الإقليمي والدولي.
- باحث في قسم العلوم السياسية - جامعة الملك سعود
7:52 دقيقه
TT
كيف تهدد قطر و{الإخوان} توازن القوى مرة أخرى؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة