جميل مطر
كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي.
TT

لوحة الشرق الأوسط: تجديد أم ابتكار؟

تعدد الرسامون، وفي ظني أن اللوحة في النهاية، أقصد قرب النهاية، سوف تأخذ ثلاث سمات؛ أولاها الجمع بين التجديد والابتكار، بمعنى أن الرسامين لم يكونوا غافلين وهم يرسمون عن ماضٍ متشبث يرفض أن يغادر، رغم التحسينات التي أدخلت عليه والتشوهات التي أصابته. ثاني سمات اللوحة التي طال انتظارنا لها، الصدق في رسم الواقع والاهتمام بالنيات بعد أن تكشف لنا أو انكشف أغلبها. ثالث سماتها، وهنا أنقل عن أدميرال تركي أحاله الرئيس رجب طيب إردوغان إلى التقاعد مع زمرة العسكريين المتهمين في قضية التآمر الشهيرة، هذه بالمناسبة دليل على استمرار الماضي في نسيج الحاضر، كما تكشف لوحة الشرق الأوسط الجديد، أنقل عن الأدميرال تعليقه على لوحة يتصورها مثل اللوحة التي أتصورها، قال ما معناه: «توقعت لوحة تقليدية بخطوط من لونين، الأبيض والأسود، فإذا بي أمام لوحة شديدة الشبه بلوحات بيكاسو». نعم. هكذا بدت لي أنا أيضاً اللوحة كما تصورتها.
***
ليس سراً كيف تشكَّلت في ذهني صورة الشرق الأوسط على النحو الذي ذكرت. تصادف أني قضيت جانباً لا بأس به من الوقت خلال العامين الماضيين أجالس خبراء وموظفين ومستشارين قريبين، بحكم المهنة أو مصدر الدخل أو الثقة من مواقع صنع القرار في عواصم الإقليم. تصادف أيضاً أني وجدت الوقت اللازم لقراءة بعض ما كتبه المتخصصون في شؤون الشرق الأوسط، وهو كثير جداً، ثم مقارنة ما سمعت بما قرأت، وفي النهاية خرجت من هذه المقارنات بمسودة لوحة كانت بالفعل أقرب إلى فن بيكاسو.
تسهيلاً للفهم، ألفت لنفسي وأرفقتها باللوحة قائمة إرشادات تضمنت خلاصات منتقاة للأوضاع العالمية والإقليمية المحيطة بالشرق الأوسط، وعلاقاتها القائمة والمحتملة بالإقليم. جعلت المزاج العالمي يأتي في صدارة القائمة. منذ مدة أتابع التغيرات في رؤى السياسيين، وبخاصة صانعو القرار.
خُيل إليّ في مرحلة من مراحل هذه المتابعة أني كمن يسمع كلمات تشي بالحنين إلى أيام كان المهيمن أجنبياً محتلاً أو أجنبياً حليفاً. راعني ما أسمع وأنا من جيل التمرد على الاحتلال والرفض للاستعمار والثورة على الهيمنة الأجنبية. كنت شاهداً على سقوط كثير من معاقل الاستعمار في الشرق الأوسط، ومشاركاً صغيراً في بناء مؤسسات وطنية وفي غرس مزاج التحرر حيث لم يوجد وترويجه حيثما وجد. أذكر مرحلة كان التفوق في امتحانات رفض الأجنبي شرط التقدم في الوظائف العامة والصعود إلى المناصب الأعلى. عشت أحداثاً بالغ سياسيون في إظهار الكره للأجنبي فيها، فكان الثمن باهظاً.
أعرف أن العولمة آتت أكلها، وبعضه كان المزاج الاستقلالي والوطني والتحرري والتقدمي، سمِّه ما تشاء. هو على كل حال عكس ما هو سائد في أيامنا الراهنة. المزاج شبه السائد عدو لمفاهيم السيادة والاستقلال الوطني والعقيدة القومية. سمعت خبيراً أفريقياً عائداً لتوه من جولة بالقارة السمراء، يقول عن أفريقيا: «عادت القارة إلى حمى الاستعمار، بالإضافة إلى حمى وباء (كورونا)». عادت قوى الاستعمار التقليدي تتسابق، وتكاد تتصادم. سبقتها إلى هناك ميليشيات وجيوش مرتزقة لتتصادم نيابة عنها أو لحسابها الخاص. سبقتها أيضاً مبادرة «الحزام والطريق» ترسم معالم علاقات صينية أفريقية ما زالت الصين عاجزة عن إثبات أنها مختلفة عن العلاقات الاستعمارية التي كبدت القارة خسائر هائلة. أميركا هناك تستميت في الدفاع عن مواقعها، رغم انسحاباتها المعلنة من أوروبا والشرق الأوسط.
***
ترددت في الآونة الأخيرة في أحاديث بعض المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط، عبارة «رجل أوروبا المريض»، في إشارة مبتكرة ولكن غير دقيقة لحال أميركا الراهنة في الإقليم. لا وجه مقارنة بين حال الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر، حين استحقت صفة «رجل أوروبا المريض» وبين حال أميركا الآن في المعسكر الغربي. غير دقيق على الإطلاق تشبيه السباق الجاري حالياً لاقتسام أو توزيع مناطق نفوذ في الشرق الأوسط كانت حكراً أو حقاً لأميركا، بما فعله دبلوماسيان غربيان بتركة الإمبراطورية العثمانية في خلال الحرب العالمية الأولى.
في نظر البعض رأي له وجاهته، وهو أن أميركا تذهل حلفاءها بمحاولتها التأقلم بكل إرادتها الحرة مع عالم يتغير وبسرعة. أميركا نفسها حثت على هذا التغيير وإلا ما كانت الصين وصلت إلى ما وصلت إليه، وهي تسعى الآن للحاق بمن سبقوها والتفوق عليهم إن أمكن. أما إذا استمر تخلي أميركا عن دورها، بمعنى آخر: إذا واصلت أميركا انحدارها وابتعادها عن ممارسة دور كان منوطاً بها في قيادة الغرب، يقول الغربيون، فسوف «يتعين علينا أن نفكر جدياً في مستقبلنا، أي في مستقبل الغرب». من ناحيتي، أتفهم هذا المنطق؛ سواء كان صادراً عن أنجيلا ميركل أو إيمانويل ماكرون أو كيرياكو ميتسوتاكيس.
هنا في الشرق الأوسط تداخلت المواقف تماماً كما تخيلها الرسامون، فخرجت لوحاتهم على نمط بيكاسو. هنا البعض من قادة محليين في الإقليم لم ينتظر عودة أميركا، فراح ينتزع موقعاً تلو آخر، أو تمترس في مواقع كان قد تمدد لها بالفعل. قيل لي ممن يعلمون في أوروبا إن أميركا نفسها ساعدتهم أو بعضهم. وحين تقال أميركا يذهب الذهن العارف بأساليب صنع السياسة الخارجية إلى مؤسسات أميركية تنافس بطرقها الخاصة البيت الأبيض حيناً، وتشاركه الرأي حيناً، وتستخدم حق النقض ضد قرار أو آخر حيناً ثالثاً.
***
كثيرون يتدخلون في الإقليم. اللوحة فعلاً تزداد تعقيداً بمرور الأيام. روسيا أيضاً تقيم قواعد وتنظم مناطق نفوذ وتنشر قوات مسلحة تحت أسماء أخرى. احترنا في تسمية روسيا، أنسميها قوة خارجية محتلة؟ أم استعماراً يبحث عن صفة مثل «الطيبة» وعدم التدخل. نراها تتصرف كما يحلو لدولة إقليمية كبرى أن تتصرف، لا رادع يكبح أو منظومة تمنع وتمنح. إنه الشرق الأوسط الجديد.