د. أحمد عبد الملك
كاتب واكاديمي قطري
TT

جدل نكوص الفكر العربي

في حديث ثقافي بين مجموعة من المثقفين العرب طال موضوع نكوص الفكر العربي وكيف أنه تأثر بالدوائر السياسية والدينية وبقية الآيدولوجيات التي شغلت هذا الفكر طوال الستين عاما الماضية.
ورأى أحد المتداخلين أهمية «توحيد» الفكر العربي من حالات الشتات والتشتت، والنزاع والتنازع، ما أدى إلى وجود احتقانات متعددة أثّرت على تطور الفكر العربي في مواجهة تنوع الأفكار، ومنها الفكر الغربي الذي ظل ملهما غزيرا للفكر العربي للتخلص من القيود المحلية - في كل بلد عربي - لما تفرضه الجهات المسؤولة على حرية الفكر واستيعابه لأوراق المستقبل بدلا من أن يعيش في «تابوت التاريخ». وكان رأينا في هذا الصدد أننا بحاجة إلى «تحرير» الفكر أولا مما علق به من ترسُبات الماضي وإقحام الدين في مواطن كثيرة من سجالات هذا الفكر. فالآيدولوجيات المتعددة في العالم العربي - ما ظهر منها وما بطن، وما فشل منها وما مات - قد تغيّرت بصورة سريعة لأن القرار السياسي كان مسيطرا على كل مظاهر الحياة، وتلاشت فرص «تحرير» هذا الفكر مما علق به من «خرافات» التاريخ أو ما جاوره من توجسات رسمية، بأن هذا الفكر إنما جاء ليخالف القوانين والأعراف المحلية، ويساهم في تنشيط حالة التمرد لدى الشعوب العربية، وهو اعتقاد «خرافي» لا يمكن التعويل عليه أو قياسه من المنظور العقلاني والأخلاقي.
ورأى أحد المتداخلين أن طروحات بعض الجماعات المتدينة - لا الإسلام - كانت السبب في نشوء «كانتونات» فكرية لم تخدم العالم العربي، ولم تساهم إلا في تأجيج المواقف لدرجة وصلت إلى العنف الفيزيائي، فغابت الصورة الجميلة للهدف الحضاري للفكر العربي.
نقول نحن مع «تحرير» الفكر، وهذا يتطلب تعديلات في قوانين النشر، وإصلاحا للتعليم وتوجيه الإعلام. وبغير ذلك سوف يظل هذا الفكر يتيما «متوحدا» مع غرفة المفكر أو المثقف. كما يتطلب الأمر «تصالحا» بين كافة الأطياف الفكرية، ورفض مقولة: «إن لم تكن معي فأنت عدوي»!. هذا النموذج الذي أدى إلى «تكفير» الكثير من المفكرين أو إقصائهم أو التضييق عليهم، ما أدى إلى تراجعات كثيرة، وبذلك حصلت حالة الشتات والتنافر بين المفكرين العرب!. وما زاد في ذلك التحولات التي شهدناها في مواقف بعض المفكرين من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، وذلك لاعتبارات سياسية أو «حياتية» متعلقة بالعيش وكسب «قوت العيال»!. هذا النكوص في مسيرة الفكر العربي ليست مسؤولة عنه السلطات بقدر ما ساهم به المفكرون العرب الذين لبسوا أكثر من قناع حسب الظروف وحسب الجغرافيا، فلم نشهد بدلاء لمحمد عابد الجابري أو محمد أركون أو فؤاد زكريا أو حسن حنفي أو محمد جابر الأنصاري.
كما أن الجيل الأول من المفكرين العرب لم يرفدهم صف ثانٍ؛ وصار أن انقطع تواصل مقاربات هذا الفكر بعد سقوط القومية العربية، بعد حوادث التاريخ المؤسفة في بداية التسعينات، حيث «كَفَرَ» كثيرون من المفكرين العرب بهذا الاتجاه لدرجة أوصلت بعضهم إلى حالة اليأس. بل إن جهود المفكرين العرب في تلمس طريق النهضة ورؤاهم لتحقيق الدولة الحضارية المتكاملة لم تواجه بقبول لدى السلطات القائمة، التي كانت منهمكة في قضايا الأمن والسلطة والسيادة، بل إن بعض التجارب العربية وصل بها الحد إلى الاستعانة بالقوى الإسلاموية - وبعضها متطرف جدا ويعادي الدولة المدنية - لصد موجة التوجه الحضاري الذي يقوده المفكرون العرب، واعتبار طروحاتهم ركوبا لموجات غربية تقترب من «الإلحاد» وعلمنة المجتمع.
قد يكون الوقت قد فات على «تحرير» و«توحيد» الفكر العربي، لأن حتميات التكنولوجيا فصلت جيل الشباب عن جيل الرواد، وما عادت هنالك رغبة أو شهية لدى هذا الجيل - الذي شهد الهزائم والتراجعات في كثير من المستويات - لأن يغامر أو يتداخل مع هذه القضايا. كما أن واقع الحال والبحث عن الفرص الاقتصادية والمعيشية، قد جعل هذا الجيل أكثر استهلاكية في بعض الدول وأكثر نهما لتعديل أوضاعه المعيشية، بل وأصبح هذا الجيل أكثر «تواكلا» لمجاراة الزمن وتحقيق المكتسبات المادية بدلا من التورط في القضايا الفكرية، خصوصا أن هذه التكنولوجيا ألزمته بعدم القراءة أو التأمل أو المشاركة في قضايا الأمة، ولعله أيضا أراد «الأمن المعيشي» والاجتماعي بدلا من التورط في قضايا النهضة. وقد لا نلوم هذا الجيل إن لم يشارك أو يتعلم ممن سبقوه، ولا نقصد هنا التعليم الأبجدي، بل الفكري وكيفية النظر للأمور بمنظار نقدي مختلف في جميع مناحي الحياة.
ولقد تمت أدلجة هذا الجيل على أنماط بعيدة عن استشراف المستقبل أو حتى ممارسة التفكير النقدي للحالات التي يعيشها، فحصلت - في مواقع كثيرة - حالات من الإذعان لـ«قدرية» الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، مع تلاشي الرغبة أو حتى المحاولة لتغيير هذا الواقع نحو الأفضل.
قد نحتاج لطرح أسئلة جديدة في هذا المقام، وماذا يمكن للشباب أن يقوموا به كي يتصدوا لإنشاء دولة النهضة في العالم العربي؟!.