محمد نبيل حلمي
TT

رُيَّاس السُحب

كان الليل قد أحكم سطوته وانتصف، وكذلك فعل الصداع بنصف رأسه؛ حساسية الجيوب الأنفية لا تنتهي، بل إنها تمادت بفعل الكحول الطائر وراء «كورونا»، وبسبب قلقه من عدوى «المستجدّ»، تلاشت في النهار خطة الذهاب إلى طبيب.
قلّد صاحبُنا غالبَه، كما يفعل بعض المغلوبين، وبدأ يعصر رأسه بنفسه بحثاً عن مخرج، وعندما تذكّر برنامج تأمينه الطبي الذي لم يستخدمه تقريباً؛ استدعى صوت زملاءه الذين قالوا له ذات مسامرة إنهم «يهاتفون الطبيب لإجراء تشخيص في الحالات البسيطة» لكن المشكلة أنه لا يعرف أين احتفظ بالبطاقة المتضمنة بيانات اشتراكه.
وبحثاً عن الكارت، قلّب رأسه وأوراق مكتبه، وأفرغ حافظة نقوده، فالتأمت المتاعب المالية مع الآلام الصحية، غير أن الذاكرة ساقته إلى عادته القديمة عندما كان يلتقط صوراً لأوراقه الرسمية بكاميرا الهاتف، وعندما فحص محتويات الـ«آيفون» لم يجد ضالته، ولما يئس من النبش في الأرض، اتجه إلى السماء فنقّب بين سحب بياناتها، ومن بينها تلك المملوكة لشركة «أبل» العملاقة، وعبر حسابه على «آي كلاود» وجد المطلوب أخيراً.
سريعاً وجد الرجل نفسه صوتاً لصوت مع طبيبه الذي شخّص الحالة ونصحه بإعادة توجيه روشتة العلاج التي سيرسلها له عبر البريد الإلكتروني إلى قسم توصيل الدواء للمنازل في التطبيق الإلكتروني الخاص بالبرنامج، وبعد ساعة كان أحدهم يطرق باب منزله حاملاً العلاج.
أزمة تكنو - طبية بسيطة مرت عبر مسارات بيانات سحابية غير مرئية، لكنها أديرت وتشابكت وفُككت في نطاق سيبراني مترام، لكنه مخطط بشكل ما... في الحقيقة - إن شئنا الدقة - فهذا النطاق السحابي ربما يكون قيد التخطيط.
وبسبب سيطرة 3 كيانات أميركية ضخمة هي: «أمازون»، و«غوغل»، و«مايكروسوفت»، على أغلبية خوادم تخزين المعلومات والحوسبة السحابية حول العالم، استشعر الأوربيون الخطر المتصاعد منذ سنوات، وقطعوا، الشهر الماضي، خطوة مهمة في المضمار نفسه بإطلاق مشروع «Gaia-X» للحوسبة السحابية، الذي تقوده ألمانيا وفرنسا بمشاركة 22 شركة، بهدف خلق مساحة رقمية آمنة لتخزين البيانات بعيداً عن هيمنة «وادي السيليكون» الأميركية، ومنافسات شركة «علي بابا» الصينية التي تنشط بالمجال نفسه.
ولتتضح الصورة؛ فيجب أن نعرف أنه في عام 2018 أُقِرّ قانون أميركي يُعرف اختصاراً بـ«CLOUD Act» يتضمن إلزاماً للشركات بتقديم معلومات عن البيانات المخزنة لديها لسلطات القانون الأميركية حتى وإن كانت الخوادم الرقمية خارج حدود البلاد.
الأمر إذن أشبه برسم «خرائط جديدة للعالم» ومحاولة رياسة أجزاء منها، لكنها «خرائط من السُحب»، ويسعى كل تكتل أو دولة كبرى لحجز مساحة فيها، ولم يترك وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير، فرصة لتأويل آخر، وبدا في غاية الوضوح، عندما تحدث الشهر الماضي، خلال الإعلان عن المشروع السحابي الأوروبي، وقال: «نحن لسنا الصين ولا أميركا، إننا دول أوروبية لنا قيمنا ومصالحنا الاقتصادية التي ندافع عنها».
في قرون مضت، كانت رياسة البحر والتحكم في السفن التجارية أظهر علامات صراع النفوذ الإمبراطوري، وسجّل كتاب أصدرته «سلسلة عالم المعرفة» في أغسطس (آب) 2018، بعنوان «رُياس البحر الهندي» لمؤلفه جانكارلو كازلي، خلفيات التنافس الذي دار في القرن السادس عشر الميلادي بين البرتغاليين والعثمانيين لفرض السيطرة على البحر الهندي.
تتغير ميادين الصراع بتغير المصالح طبعاً، أو يكتسب بعضها أهمية دون الآخر، غير أن الملمح الأهم راهناً، يتمثل في أن جائحة «كورونا المستجد» عمّقت وعززت نمطاً سيصعب تغييره؛ إذ خلقت اعتماداً شبه كلي على البيانات المنقولة افتراضياً، سواء في صورة مؤتمرات، ومفاوضات، وعمليات شراء، وابتكار حلول رقمية سريعة، وهو ما يترجَم الآن عبر تسريع ودفع خطط الإنشاء والحضور والسيطرة على مساحات سحابية رقمية كبيرة ومأمونة لكل صاحب مصلحة في العالم.
وبينما كانت زخات الأمطار تتساقط فيما مضى من أعلى إلى أسفل مانحة الحياة والروح لجماعة من البشر وقطعة من الأرض، فإن الصورة الآن باتت تقريباً مقلوبة، وببساطة باتت سيول البيانات والمعلومات التي تخرج من أجهزتنا هنا على سطح الأرض هي التي تُغذّي هذه السحابة أو الشركة أو الدولة بمصادر النمو والتأثير.
أما أولئك الذين يبحثون بشكل عاجل عن سحابة بيانات عربية تتسم بالتنافسية وتحظى بالتأثير، فربما لا يجدون - مع الأسف - ما يسري عنهم سوى في مُعلقة الأعشى الذي قال واصفاً سحابة تليق بعصره لا بعصرنا:
كأن مشيتها من بيتِ جارتها
مرّ السحابةِ لا ريثٌ ولا عجلٌ