توقعات سياسية غير منطقية ظهرت مع تسارع تفشي وباء «كورونا»، أكدت أن محور القوة العالمية سيتجه للشرق، وسيهجر الغرب الذي كان يعاني حينها من تزايد حالات الإصابات والوفيات. مع المشاهد القاتمة لتراكم الجثث، ونقلها في المصفّحات، اكتسبت هذه الفرضية بعض المصداقية، لكنها استمرّت لأشهر معدودة.
العالم كله منهك، إلا أن تلك التوقعات كانت غير موضوعية ومتشائمة. نشهد الآن تدريجياً عودة الحياة مع تناقص عدد الوفيات، وتعافي الاقتصاد في أوروبا والولايات المتحدة مع تزايد عدد الوظائف (الاقتصاد الأميركي أضاف 4.8 مليون وظيفة في شهر يونيو «حزيران» الماضي). حتى الطرف الآخر، الذين يهاجمون الصين، ويعتقدون أنها تمرّ بأزمة خانقة يفعلون ذلك لأسباب سياسية، أو أنهم غارقون في نظرة سوداوية. اقتصادياً تجاوزت الصين الأيام الصعبة للجائحة، وأكثر ما تقوم به الحكومة إغلاق بعض الأحياء في بكين لبضعة أيام.
انهيار النظام العالمي وانتقاله إلى قوة أخرى تعيد تشكيل العالم من جديد ليس مسألة سهلة، ويحتاج إلى ظروف موضوعية ومنطقية ليست متوفرة حالياً. لنعرف ذلك من المهم أن ندرك الأسباب الموضوعية التي تسببت في انهيار النظام العالمي القديم الذي شكلته الإمبراطورية البريطانية قبل أن تصعد القوة الأميركية في الأربعينات لتؤسس نظامها العالمي الخاص بها.
انهيار الإمبراطورية البريطانية كان على عقود طويلة ولأسباب جذرية. حصتها في التصنيع العالمي كانت في أعلى مراحلها عام 1870، عندما كانت 30 في المائة، ولكنها هبطت في عام 1910 لتصل إلى 15 في المائة، في الوقت الذي زاد فيه تصنيع الولايات المتحدة ليصل إلى 25 في المائة. قوتها البحرية الضاربة التي كانت سيدة المحيطات بسفنها الحربية التي تدمّر كل مَن يقف أمامها وصلت إلى ذروة مجدها عام 1883، ولكن خرجت من المنافسة عام 1897 أمام الأسطولين الأميركي في الغرب والياباني في الشرق.
هذا بالتأكيد لا ينطبق على الولايات المتحدة التي تُعدّ الاقتصاد الأكبر عالمياً. نسبة إنتاج اقتصادها تصل تقريباً إلى الربع (23.4 في المائة) من مجموع الاقتصاد العالمي، ولم تتراجع منذ الستينات وحتى اليوم. قوتها العسكرية التي تنفق عليها أكثر من 700 مليار دولار سنوياً هي الأقوى بين كل قوى العالم مجتمعة (في عام 2019 دفعت ما يقارب 718 مليار دولار، مقابل الصين التي خصصت 178.2 مليار دولار).
وبسبب غياب القوة العالمية المهيمنة عسكرياً، اندلعت حروب ونزاعات مستمرة تسببت في انهيار النظام الدولي حينها، بعد الحرب العالمية الثانية التي لم تكن إلا الفصل الأخير لسلسلة من الحروب الوحشية. ما بين عامي 1850 و1945 دخلت فرنسا وألمانيا في ثلاث حروب: 1870 و1914 و1940. روسيا وألمانيا اشتبكتا في حربين طاحنتين. فرنسا وبريطانيا دخلتا في حرب مع ألمانيا. النزاعات والتوترات كانت تملأ الأجواء، وتهدد باندلاع المواجهات بسبب القوى الطموحة المتجاورة المتقاربة عسكرياً. هذه المؤشرات دلَّت حينها على شيء واحد، وهو أن النظام الدولي المصنوع أوروبياً كان في طريقه إلى تدمير نفسه. ولهذا السبب تحديداً لم نشهد حروباً عالمية منذ 70 عاماً، بسبب وجود قوة عسكرية مهيمنة أعادت للعالم استقراره بعد هزيمة أهم عدوين: ألمانيا واليابان، ودمقطرتهما وإدماجهما بالمجتمع الدولي.
انهيار أميركا اقتصادياً وعسكرياً، كما حدث مع الإمبراطورية البريطانية حينها، سيوفر أسباباً موضوعية للقول إنها ستضعف ويتحطم نظامها وتحل محلها القوة الصينية أو الروسية. لكن الأرقام المؤكدة لا تجعلنا نرى ذلك على الأقل في هذا الوقت تحديداً وخصوصاً مع الإدارة الأميركية الجمهورية الحالية المؤمنة بالمحافظة على عظمتها، كما هو شعارها الأشهر، أما وباء «كورونا» فلن يغير الشيء الكثير. الميكروبات والفيروسات والجراثيم مضرة، ولكنها لا تُسقط ولا تقسم القوى العظمى، ولكن الجيوش والأموال تفعل.
- المدير العام لقناتي «العربية» و«الحدث»
7:50 دقيقه
TT
هل تُسقط الميكروبات القوى العظمى؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة