لا يملك المرء سوى التعاطف مع الشعب الأميركي لما أصابه جراء تفشي فيروس «كورونا»، والاضطرابات الاقتصادية، وسنة الانتخابات، خاصة إذا استبعدنا من دائرة التفكير مسألة الأمن الدولي.
لحسن الحظ، لم يتشتت انتباه الكونغرس بهذا الشكل، حيث أقرت لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب، الأسبوع الماضي، مشروع قانون تفويض للدفاع السنوي بقيمة 740 مليار دولار.
وتناول هذا الإجراء كثيراً من القضايا الساخنة، على وجه التحديد منها زيادة القوات والرموز الكونفدرالية في القواعد العسكرية، مما يحد من قدرة الرئيس على سحب القوات من أوروبا وأفغانستان. لكن الأسئلة طويلة المدى أكثر غموضاً، ومنها: ما المجالات الرئيسية التي يتعين على الولايات المتحدة الاستثمار فيها للاستعداد للردع وللعمليات القتالية في القرن الحادي والعشرين؟
هناك كثير من الأشخاص الأذكياء للغاية الذين يفكرون في هذا السؤال. فكل جيش لديه مركز أبحاث يخطط لمستقبله. فالجيش الأميركي، على سبيل المثال، أنشأ مقر قيادة الولايات المتحدة المستقبلية في أوستن، بولاية تكساس، وهو موقع ممتاز كونه مكان التقاء لشركات التكنولوجيا والإنترنت، وبه جامعة أبحاث رئيسية، وموطن لولاية تحب الجيش.
وفي السياق ذاته، تبحث مجموعة «تيم أغنايت» الديناميكية في كيفية تغيير الحرب في الإطار الزمنى (2040-2050)، وهو يشبه إلى حد كبير ما تم من عمل في مؤسسة «راند» بعد الحرب العالمية الثانية، بشأن فهم كيف يمكن للتغيرات التكنولوجية الكبيرة أن تؤثر على الحرب. ففي هذا الجهد، تحاول مجموعة «تيم أغنايت» فهم عملية الاندماج بين الذكاء الصناعي والتكنولوجيا الحيوية والفضاء والتعلم الآلي وغيره من الاتجاهات. وثمة جهد جديد آخر هو «تقرير مستقبل القوات الجوية» الذي يعد سياسياً جغرافياً تكنولوجياً في نهجه.
لقد قمت بجهد مشابه عندما كنت برتبة أدميرال بنجمة واحدة تمَّ اختياري مباشرة عقب اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول)، فقد سعت مجموعتنا للوصول إلى تقنيات حديثة (إلى جانب الاستراتيجيات والتكتيكات والإجراءات الجديدة)، حيث غيرت البحرية مسارها للعمل فيما بات «حرباً عالمية على الإرهاب». وقد كان لمنظمة «بلو بيب» الصغيرة نجاحاتها، كما كان لها إخفاقاتها، لكنَّها كانت جزءاً من تحول كبير في كيفية تعامل البحرية مع دورها القتالي، ومع التقنيات الجديدة التي ستطبق في الأسطول.
اليوم، ومع التركيز المتجدد على الصين وروسيا، المنافسين العسكريين، يبدو ثمة تحول مماثل في طريقنا. فمن خلال استقراء العمل الذي قمنا به في «ديب بلو»، واستطلاع مختلف أوجه الخدمة على المستوى غير المصنف (بالإضافة إلى زيادة فهم العمل الصناعي لمهنتي فيما بعد الحرب العسكرية)، أود القول إن هناك 6 مناطق تكنولوجية رئيسية يجب مراقبتها، كما يلي:
الذكاء الصناعي: سيكون هناك اندماج متزايد السلاسة للذكاء الصناعي وللأنظمة الميكانيكية المستقلة، حيث نعمل بشكل جماعي «لإخراج الإنسان من الحلقة»، في صنع القرار وفي العمليات القتالية. فخلال غزو أفغانستان، لم يكن لدى الجيش الأميركي أي روبوتات في مخزونة، بل عدد محدود من الأنظمة المستقلة. واليوم، تمتلك وزارة الدفاع أكثر من 22 ألف نظام آلي.
وفي القطاع الخاص، يقترب الإنفاق الجماعي من 100 مليار دولار سنوياً في سباق تسلح بالذكاء الصناعي العسكري والتجاري. وسيسمح الذكاء الصناعي لصانعي القرار العسكريين بتبسيط اللوجيستيات المعقدة وسلاسل التوريد، وتحليل تحركات الخصوم، واتخاذ خيارات تكتيكية وتشغيلية أفضل في القتال. فقط فكر في الكيفية التي يسمح بها الذكاء الصناعي للآلات بالسيطرة على لعبة الشطرنج العالمي، والتفوق فيها، وهو بالضبط ما سيحدث في ساحة المعركة.
الأنظمة الذاتية: ستسمح الأنظمة التي تعمل بالذكاء الصناعي بإنشاء منصات قيادة أفضل، ومدروسة بدقة أكبر، مثل الطائرات من دون طيار، والسيارات والمركبات البرية الثقيلة، والسفن السطحية والغواصات، وجميعها من دون قائد. لكن مستوى مختلف تماماً من الذكاء الصناعي سيدفع ما يعرف بأنظمة «السرب» أو الحشود التي يمكنها استخدام مئات أو آلاف من أجهزة الاستشعار أو الأسلحة لاستخدامها بطريقة مستقلة. وسيؤدي اندماج الذكاء الصناعي والأنظمة الميكانيكية في نهاية المطاف إلى إنتاج ما يشبه الروبوتات الشبيهة بالإنسان التي تخيلها إسحاق أسيموف قبل 70 عاماً في رواية «أنا روبوت». وسيجلب هذا أيضاً إلى الواقع بعض تقنيات القتال المخيفة التي تم تصويرها في رواية الكاتبين بيتر سينجر وأوغست كول عام 2015، بعنوان «أسطول الأشباح»، حيث تغمر آلات الاستشعار والقتل التي لا يتخطى حجمها حجم الحشرات ساحة المعركة لتدك أنظمة العدو الكبيرة.
إن السيطرة على محيطات العالم من خلال أنظمة الردع التي تعتمد على مجمعات التعدين التجارية في أعماق البحار التي تعتمد على الذكاء الصناعي لهي مثال حي آخر. لذلك، فإن اتصالات الموجات المليمترية التي تسمح بمعدل بيانات عالٍ للغاية جاءت متزامنة مع حلول مع يعرف بتكنولوجيا السحاب والحلول الشبكية المحلية. فهذه الأنظمة شديدة التوجيه قصيرة المدى، ومن الصعب للغاية اكتشافها، وستسهل من توجيه الهجوم الحاشد، والسيطرة على الحرائق الواسعة، خاصة إذا اقترنت، على سبيل المثال، بمركبات فضائية تعمل بالطاقة الشمسية.
الفضاء الحاسوبي: سيتم تشغيل جميع أنظمة الذكاء الصناعي والأنظمة المستقلة في نهاية المطاف على بعض إصدارات الشبكة العالمية. وليس من الواضح حتى الآن إذا ما كان من الأفضل الاعتماد على الجزء المخصص للاستخدام العسكري، أو أن الأمر سينتهى ببساطة إلى الاعتماد على الفرع المخصص للإنترنت العام.
جدير بالذكر أن إنترنت الأشياء عبارة عن مساحة تزداد اكتظاظاً بالسكان -نحو 20 مليار جهاز متصل بالإنترنت اليوم؛ أي ما يقرب من 3 أجهزة لكل إنسان على سطح الكوكب- وسيتخطى الرقم 50 مليار جهاز بحلول منتصف العقد.
ومن شأن كل ذلك أن يوفر راحة لا تصدق (نعم، يمكنني فتح باب المرأب الخاص بي من على بعد ألف ميل!)، ولكنه يخلق أيضاً «تهديداً» هائلاً يمكن من خلاله للجهات الحكومية الخبيثة والمتسللين ومجرمي الإنترنت العمل.
ويعتمد الجيش في معظم النواحي على الإنترنت التشغيلي، وعلى حماية العمل العسكري، فيما يسمى «المجال الخامس»، وهو أمر بالغ الأهمية. ويجب أن تكون القوات العسكرية قادرة على الحرب السيبرانية المتكاملة، من خلال توفير الدفاعات القوية للأنظمة عبر الإنترنت، والتمتع بدرجة عالية من التعاون مع القطاع الخاص. فمثلما أنشأ الجيش قوة فضائية رسمية، يجب عليه الآن إنشاء قوة إلكترونية سيبرانية أيضاً.
الفضاء: هناك أكثر من 2600 قمر صناعي يدور حول الأرض، مئات منها عسكرية بطبيعتها. وستُستخدم الأقمار الصناعية الدفاعية في المراقبة واسعة النطاق، وفي اعتراض الاتصالات، وتحليل المعلومات، والاستهداف الدقيق، والعمليات المضادة في الفضاء (مهاجمة الأقمار الصناعية الأخرى)، وفي الحروب التجارية.
وتُنصح كثير من الشركات بالعمل في صناعة الأقمار الصناعية، ويزداد بسرعة الطلب التجاري على الحلول الفضائية في مشاريع تتراوح من الزراعة الذكية إلى التعدين في قاع البحار العميقة. وسيكون الوصول إلى مزيج مناسب بين القطاعين العام والخاص أمراً في غاية الأهمية للدفاع الوطني.
التكنولوجيا الحيوية: إذا كان لجائحة «كورونا» أن تعلمنا شيئاً، فهو أنه يجب علينا احترام «علم الأحياء» الذي يمكنه أن يغير حياتنا في لحظة. ولسوء الحظ، فمن المؤكد أن المستقبل سيتضمن أسلحة بيولوجية متطورة تم تطويرها في المختبرات، رغم الاتفاقيات الدولية المناهضة لذلك. وسيكون من الصعب على الدول الأصغر التفكير في الأسلحة البيولوجية بصفتها معادلات، ولذلك من المهم أن تكون جزءاً من نظام الأمن الدولي والمعاهدات الجديدة لحظر البحث والتطوير في هذه المجالات.
القوات الخاصة: إلى جانب جميع التحسينات وعمليات التطوير ذات التقنية العالية، سيكون هناك اتجاه واحد في الدفاع في القرن الحادي والعشرين يتسم بالإنسانية، ويبعث على الطمأنينة، وهو الزيادة المتواصلة للقوات الخاصة. ولقد كانت هناك دائماً قوات كوماندوز كجزء من الحرب تعود إلى زمن الإغريق والفرس القدماء. لكن في عالم اليوم، ستزداد الحاجة إلى فرق صغيرة من النخبة من المحاربين بمستويات عالية للغاية من التدريب والذكاء واللياقة والمعدات المتطورة.
ويبدو أن تشكيلات ضخمة من الجيوش المحاصرة في القتال تبدو غير محتملة بشكل متزايد، بسبب تكلفة الحفاظ على مثل هذه القوات في وقت السلم (خاصة من دون تجنيد إجباري)، وسهولة استهدافها بواسطة الأنظمة المتقدمة وتدميرها في الميدان.
وبدلاً من ذلك، ستقوم الفرق الغامضة من المشغلين من ذوي المهارات العالية بالربط بين الأدوات سالفة الذكر، وستعمل على توفير العرض الفوري للمعلومات الدقيقة التي تقدمها الأقمار الصناعية، والدعوة إلى إنشاء منصات هجوم مستقلة، واستخدام برامج الحرب السيبرانية لإرباك العدو وتعطيله، والاعتماد على تحسينات الأداء البشري للحفاظ على أنفسهم لفترات تكتيكية طويلة. وقد كانت «الحرب الروسية الهجينة» التي تم استخدامها بشكل فعال ضد أوكرانيا وجورجيا نسخة حديثة من ذلك.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»