عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

«كيف أعاودك وهذا أثر فأسك»؟!

الأزمات السياسية لا يلغي بعضها البعض الآخر، بل تصطف معاً كتحديات تحتاج مواجهتها إلى استراتيجيات محكمة ومستمرة، فبعدما كانت إيران تحتل أربع دول عربية أصبحت تركيا شغوفة بالنموذج الإيراني، وقامت باحتلال ثلاث دول عربية، وهي تسعى لمشاركة إيران في احتلال الدولة الرابعة.
إيران تحتل العراق وسوريا ولبنان واليمن، عبر طريقتها المفضلة، وهي الميليشيات، ولكنها تبدأ بنشر الفوضى بدعم كل أنواع الميليشيات المتضاربة، كما جرى في العراق وسوريا؛ دعم لتنظيم «داعش» ودعم لـ«الحشد الشعبي»، حتى ضمنت ما يسميه كاتب هذه السطور «استقرار الفوضى»، ومن ثم بسطت نفوذها في الدولتين.
التقليد التركي يتبع خطى النموذج الإيراني، فهو يدعم ويدرب الميليشيات، ويفتح شبكة عالمية لنقل المرتزقة والإرهابيين جواً وبحراً بين الأجزاء التي يحتلها من الدول العربية في العراق وسوريا وليبيا، والأخيرة هي الحدث الأبرز في هذه الفترة.
إيران ترزح تحت العقوبات منذ أربعين عاماً، وقد تعودت وعوّدت شعبها على حياة الفقر والعوز والجوع والحاجة، وباعتهم أحلام الآيديولوجيا وأوهامها والتوسع وبسط النفوذ، وأقنعتهم أن تدني معيشتهم مع دعم جماعات الإرهاب وميليشياته هو المستقبل لاستعادة الإمبراطورية الفارسية، أما في تركيا فالوضع مختلفٌ، فتركيا دولة علمانية حديثة لديها مؤسسات وقوانين، وهي بحاجة لسنواتٍ حتى يستطيع إردوغان ضمان انهيار الدولة عبر انهيار اقتصادها، وإشغال الناس بالحروب الخارجية حتى يعتادوا الفقر والعوز والجوع، وهو يعتمد على المرتزقة المنقولين جواً من أنحاء العالم عبر تركيا.
بدأت تركيا في بناء «دولة طالبان» في ليبيا، التي تريد منها تركيا وقطر وجماعة «الإخوان المسلمين» أن تكون مصدراً لدعم الاقتصاد التركي شبه المنهار، وموئلاً لكل الإرهابيين والمرتزقة في العالم بعدما تم تضييق الخناق عليهم في أكثر من بلدٍ حول العالم، كما أنها ستكون منطلقاً لمشاكسة مصر ونشر الإرهاب فيها عبر الحدود الجغرافية الطويلة بين البلدين.
إيران تواجه معضلتين كبيرتين تهددان مشروعها التوسعي بالكامل؛ الأولى العقوبات الأميركية القاسية التي فرضتها إدارة الرئيس ترمب، وقد بدأت تؤتي أكلها بشكل واضح، وأدت إلى انهيارات اقتصادية وأمنية لا تخطئها عين المراقب لما يجري هناك، والثانية التفشي المخيف لوباء «كورونا»، الذي اختار المرشد الأعلى مواجهته بالخرافات كسياسة دولة، لا مجرد رأي يذهب أدراج الرياح.
تنقل وسائل الإعلام عمليات الحرائق والتفجيرات في أماكن متفرقة داخل إيران، وبعضها يستهدف المنشآت النووية الإيرانية، وبدأت تخرج أسماء جماعات مسلحة تتبنى بعض هذه العمليات، وهذا أمرٌ طبيعي يحدث عن ضعف النظام واختلال الأمن في الدول المتجهة للانهيار.
لن ينهار النظام الإيراني سريعاً، ولكن هذا منطق التاريخ في الدول النازية المتجهة للانهيار حتى يتراكم الغضب الشعبي، وينتظم الغاضبون في جماعات وتنظيمات، ويشرعون في تحدي النظام مع عجزه عن مواجهة الانهيارات الأمنية، فيتجه للضعف المتزايد قبل السقوط.
النظام الإيراني يعقد الكثير من الآمال على سقوط الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وعودة الأوبامية من الحزب الديمقراطي للحكم عبر جو بايدن حتى يستطيع النظام جمع شتاته، واستعادة أدواره التخريبية، وإنعاش اقتصاده، وإسكات شعبه، ونشر الفوضى من جديد تحت حماية الأوبامية ودعمها.
بدأت أميركا تكتشف الخطأ الذي أقدمت عليه خوفاً من التدخل الروسي في ليبيا، وذلك بمنح إردوغان الضوء الأخضر لاحتلال واستعمار ليبيا، وبدأ الحديث عن أن سرت خط أحمر، كما قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وبدعم سعودي - إماراتي كامل، وهو ما غيّر موازين القوى على الأرض.
كأي استعمارٍ عسكري خشنٍ، فهو يبدأ بصور المدنيين المتأنقين، وينتهي بالجنرالات المدججين بالأسلحة، فإن تركيا دخلت بهذه الطريقة فلم يعد الدبلوماسيون في الواجهة، بل الجنود بأحذيتهم وأسلحتهم، وكانت الزيارة الأخيرة لوزير الدفاع التركي ورئيس الأركان لطرابلس، وتعيين أحد الإرهابيين الموالين لتركيا وقطر في رئاسة الاستخبارات إحدى سياسات المستعمرين، غير أن تركيا تبدو مستعجلة جداً في الانتهاء من المخطط.
جماعة «الإخوان المسلمين» هي عضو أساسي في المحور الأصولي في المنطقة بين إيران وتركيا وقطر، وقد ثبت أن كل انشقاقات الجماعة من قبل ما هي إلا ذرٌ للرماد في العيون، سواء في «إخوان» الكويت بعد احتلال صدام لها، أو في «إخوان» قطر الذين حلّوا تنظيمهم، لأن الدولة برمتها أصبحت «إخوانية» خالصة، وبالتالي ففروع الجماعة منحازة بطبيعتها لهذا المحور.
هذا يصح على كل فروع الجماعة في كل مكانٍ، ويصح أكثر على فرع جماعة «الإخوان» في اليمن الذين يعملون من داخل الشرعية لإسقاطها وإفشالها، وتمديد أمد الحرب قدر المستطاع حتى ييأس التحالف العربي، وبالتالي يسهل احتلال اليمن من الغازي الأجنبي من دون الحاجة لستار الميليشيات، وهم يعملون مع تركيا وقطر منذ الآن.
وكما علّمنا التاريخ أن النازية ليست رسول سلام، فإن جماعة «الإخوان» لا تستطيع إلا أن تكون مسعر حرب وناشر إرهاب، وطريقتها المفضلة هي التغلغل في أي كيانٍ سياسي أو عسكري، وكسب ثقته، ومن ثم الغدر به، والانقلاب عليه، وهو تحديداً ما تصنعه في اليمن من إيقاف كل الجبهات ضد الحوثي لسنواتٍ طوالٍ، وتشتيت جهود الشرعية والتحالف عن الهدف الأسمى، وهو استعادة الدولة اليمنية.
فرقٌ كبيرٌ بين المنخرط في محور استراتيجي، وبين المضطر للتعاون في معركة، وهذا شأن «إخوان» اليمن، فهم بحكم آيديولوجيتهم وهواهم واستراتيجيتهم ينتمون للمحور الإيراني التركي القطري، ولكنهم مضطرون لمجاملة السعودية والتحالف العربي كمعركة عابرة في حرب كبرى.
ارتفاع وتيرة الصواريخ الحوثية على السعودية، والسعي الدؤوب لخلق موطئ قدم لتركيا في اليمن، والضرب المستمر ضد قوى جنوب اليمن، وإقناع الشرعية بالاستمرار على الأطراف، وعدم عمل أي اختراقٍ عسكري أو سياسي ذي بال، كل هذا عملٌ مخططٌ له وليس حظاً عاثراً فحسب، وستستمر الأمور بهذا الاتجاه لسنواتٍ مقبلة للأسف.
مع الاقتراب الكبير والتكامل العملي، لا الآيديولوجي فقط، بين المشروع الإيراني والمشروع التركي، والدعم المادي القطري والتنظيمي لجماعة «الإخوان»، واستمرار المحور الأصولي، فإن المنطقة مقبلة على صراعات مستمرة واستراتيجيات متحولة وميليشيات متنقلة، وفي الطريق خياناتٌ وعمالةٌ وغدرٌ، ومن الجيد معرفة العدو من الصديق في خضم الصراعات.
أخيراً، كانت العرب تقول: كيف أعاودك وهذا أثر فأسك؟