داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

الجدران الناطقة الرسمية باسم المتظاهرين

في كل الدول يلجأ المحتجون أو المتظاهرون إلى فن «الغرافيتي» بالكتابة على الجدران للتعبير عن مطالبهم أو معارضتهم للأنظمة المختلفة. أتذكر أن تلميذاً مشاغباً معنا في الصف الخامس الابتدائي في بداية الخمسينات من القرن الماضي كتب على اللوحة في الاستراحة: «يسقط الفرّاش فرج»! ولم نفهم معنى هذا الشعار إلا بعد أن أبلغ المعلم مدير المدرسة الذي عَنَّفَ التلميذ بشدة وأمره بعدم المجيء إلا مع والده. وتبيَّن أن الفرّاش الذي كان يبيع الحلويات بين الدروس رفض تسلم عملة معدنية نحاسية شبه ممسوحة من التلميذ، فقرر الزميل كتابة شعار على اللوحة السوداء بالطباشير يشبه الشعارات التي قرأها على جدران المدينة الحدودية في العراق، من نوع يسقط ويعيش، وحاول أن يجمع رأياً عاماً حوله داخل الصف ضد الفرّاش فرج!
ومنذ ذلك الحادث الذي فَتّحَ أعيننا على السياسة قرأنا آلاف الشعارات السياسية على الجدران. وحين كبرنا عرفنا أن المتظاهرين في كل العالم يتفاهمون بهذه اللغة قبل أن «يتطور» الاحتجاج إلى العنف وإغلاق الطرق ورفع لافتات التنديد بالحكومة أو غلاء الأسعار أو شتم الاستعمار والإمبريالية.
الآن صارت الكتابة على الجدران فناً عالمياً يُعرف بـ«الغرافيتي»، وهي كلمة مشتقة من الكلمة العربية الفصحى «الزخرفة». وتُظهر الآثار البابلية والسومرية والآشورية في بلاد ما بين النهرين والآثار الفرعونية في بلاد النيل أن هذا الفن كان معروفاً في تلك المراحل التاريخية العميقة على الرغم من «ديمقراطية» الفراعنة و«حنان» الآشوريين و«طيبة قلب» السومريين» و«دبلوماسية» البابليين!
والآن: هل كان الزعيم الملون الراحل مارتن لوثر كينغ يحلم فعلاً وهو يقف عند نصب لينكولن التذكاري في 28 أغسطس (آب) 1963، خلال مسيرة واشنطن للحرية، عندما عبّر عن رغبته في رؤية مستقبل يتعايش فيه السود والبيض الأميركيون بحرية ومساواة وتجانس، مثلما يعيش حالياً، بلا حسد، العراقيون والسوريون واللبنانيون واليمنيون... والإيرانيون والأفغان؟!
لم يبق من ذكرى خطاب لوثر كينغ البليغ الذي تم اختياره «أهم خطبة أميركية في القرن العشرين» سوى عبارة «لديّ حلم»، وحتى هذه العبارة ليست له وإنما مأخوذة من أغنية المطربة الأفريقية الأصل الراحلة ماهاليا جاكسون: «قل لهم عن الحلم يا مارتن». صحيح أن هذا الشعار حرر الملونين الأفارقة وأوصل أوباما إلى البيت الأبيض، إلا أنه تحول إلى النقيض.
هل كان خنق الرجل الأميركي ذي الأصل الأفريقي جورج فلويد يعني أن حلم مارتن لوثر كينغ قد انتهى؟ بالطبع لا. فالملونون في الولايات المتحدة من أعراق مختلفة يشكلون أكثر من أربعين مليون نسمة من عدد نفوس الولايات المتحدة البالغ نحو 328 مليون نسمة.
شاهدنا مراراً وتكراراً أفلاماً أميركية عن رجال شرطة بيض فاسدين، سواء في الشوارع أو دوائر الشرطة أو السجون. وهم قُساة وغلاظ القلوب ولغتهم المفضلة إطلاق النار. ومن «بركات» الاحتلال الأميركي للعراق في 2003 أنه نظّم دورات «تثقيفية وتدريبية عاجلة» في الأردن لمتطوعين عراقيين من طائفة معينة سواء في الجيش أو الشرطة. وليس لدينا أي اعتراض على ذلك، سوى أن التدريب لم يكن للدفاع عن العراق في وجه أي عدوان أجنبي، وإنما لقمع أي تحرك شعبي وطني سواء ضد الاحتلال الأميركي أو ضد الحكام الطائفيين الموالين للنظام الإيراني. وحتى لا يلتبس الأمر على القارئ، فإن تلك التدريبات كانت قبل ظهور تنظيم «داعش» بسنوات. ومن بين الدروس التي تعلمها المتدربون العراقيون كيفية اعتقال المعارضين وخنقهم على الطريقة التي تُسمى الآن «رقبة فلويد»، ووسائل الحصول على اعترافات المعتقلين بشتى أنواع التعذيب سواء دروس سجن «أبو غريب» في بغداد أو سجن «الحوت» في الناصرية (جنوب العراق) أو المعتقلات في شمال العراق. وقرأتُ تصريحاً لناشط أميركي منذ سنوات قال فيه إن المعتقلات الأميركية في العراق أسوأ من معتقل «غوانتانامو» في كوبا الذي سُجن فيه ناشطون من تنظيم «القاعدة» أيام بن لادن.
لكن قيادات الشرطة الأميركية تحركت، بعد المظاهرات الصاخبة والسلب والنهب والقتلى الملونين وازدهار الكتابة المعارضة على الجدران التي وصلت إلى الذروة عالمياً. ولأول مرة في تاريخ أجهزة الشرطة في العالم، أصدر اتحاد شرطة لوس أنجليس بياناً قال في أول سطوره: «لا توجد كلمات يمكن أن تُعبر عن اشمئزازنا الجماعي وحزننا لمقتل جورج فلويد. واجبنا كأفراد شرطة وكبشر التعبير عن حزننا من خلال الفعل» وليس القول فقط. والبداية كانت:
«وضع معيار وطني لاستخدام القوة يؤكد تقديس الحياة والرحمة. وإطلاق قاعدة بيانات وطنية لضباط الشرطة السابقين الذين تمت إقالتهم بسبب سوء سلوكهم الجسيم لمنع الوكالات الأمنية من توظيفهم».
طبعاً لا نستطيع أن نقارن بين ما فعلته الشرطة الأميركية وما تفعله الأجهزة الأمنية العراقية - مثلاً - من إطلاق رصاص حي وعبوات غازية متفجرة على رؤوس وصدور المتظاهرين العراقيين الذين طالبوا باسترداد وطنهم من عملاء إيران، وإيجاد فرص عمل للعاطلين ومكافحة الفساد. وفي أجواء وباء «كورونا»، وصعوبة إعادة تنظيم مظاهرات «ثورة تشرين» العراقية، فإن الأداة الفعالة الوحيدة المتيسرة أمام شباب الثورة هي استعادة فن الأجداد العظام: الكتابة على الجدران.
حتى الآن الموقف متوتر بين الشرطة الأميركية من جهة وعامة الناس الغاضبين، وليس مع الملونين فقط. وهو ما دعا صحيفة «وول ستريت جورنال» إلى نشر مقال بارز في صحيفة «الرأي» عنوانه: «من يريد أن يصبح شرطياً؟» تناول مسألة الاحترام المفقود بين الجانبين. وهي مسألة حيوية في الأمن الداخلي في أي دولة.
الأحلام لا تقول كل شيء، لكن الكتابة على الجدران تقول أشياء كثيرة، كما قالت صحيفة «لوس أنجليس تايمز» في عز الأزمة بعد أن امتلأت الحيطان بالهتافات الصامتة ضد التعسف والفساد والقتل بلا رحمة. وللتذكير فإن جارة القمر فيروز قالت في إحدى أغانيها الجميلة: «ضِجرت مني الحيطان... ومستحية تقول».
تعكس الكتابة على الحيطان باختصار ما يعدّه الناس الأكثر أهمية. وفي الولايات المتحدة كان المتظاهرون في السنوات السابقة يتمسكون باللافتات التي يرفعونها في مسيراتهم الاحتجاجية. أما اليوم فإن الجدران هي الناطق الرسمي باسم المتظاهرين في جميع الولايات. وكلمة السر الشائعة هي آخر كلمات نطق بها جورج فلويد قبل وفاته: «لا أستطيع التنفس». وأضاف إليها المتظاهرون عبارة: «هل أنا التالي»؟
رحم الله فرّاش مدرستي العم فرج.