تسببت موجة اشتعال في نزاع حدودي قائم منذ أمد طويل بين الصين والهند، في توتر العلاقات بين البلدين. ومع هذا، فإن هذا الأمر قد يحمل ذات القدر من الأهمية فيما يخص العلاقات الثلاثية بين الولايات المتحدة والصين والهند، الأمر الذي سيسهم بدرجة كبيرة في صياغة المشهد الاستراتيجي للقرن الـ21.
ومع انتقال التنافس بين الولايات المتحدة والصين إلى الساحة العالمية، ربما تكون الهند البلد الوحيد غير المنحاز والذي يمكنه بمفرده خلق اختلاف كبير في توازن النفوذ والمزايا عالمياً. وتتمثل الأنباء السارة هنا في أن جيوسياسات هذا المثلث تخلق تقارباً أكبر بين الولايات المتحدة والهند. أما الأنباء السلبية فهي أن الانقسامات التجارية والسياسات الداخلية الهندية تقف عائقاً في الطريق.
وتخيم حالة من الغموض على تفاصيل الأزمة الحدودية بين الصين والهند، الأمر الذي يعود في جزء منه إلى أن الحكومات لا تزال تلتزم الصمت. ومع هذا، يبدو واضحاً أن الصين والهند في خضم واحدة من أكثر المواجهات خطورة منذ عقود، على ارتفاع 14.000 قدم من سطح البحر داخل إقليم الهيمالايا. وتفيد تقارير بحدوث العديد من الخروقات الصينية داخل أراض خاضعة لسيطرة الهند، بما في ذلك أراض تقع فيما وراء المناطق التي تدعي بكين أحقيتها في السيطرة عليها. وأرسلت الصين الآلاف من قواتها لتعزيز وجودها في المنطقة، في إطار ما يبدو غزواً محدوداً. وتشير تقارير إلى أن الجانبين ينشران أسلحة ثقيلة في قواعد قرب المنطقة المتنازع عليها.
إلا أنه في الوقت الراهن، لا يبدو أي من الطرفين متلهفاً على التصعيد إلى حرب شاملة.
وتهلل صحف قومية هندية بالفعل متحدثة عن تراجع صيني. ويبدو هذا الحكم سابقاً لأوانه على نحو خطير. ومن الواضح أن بكين نجحت في تذكير الهند بأنها تملك قدرات عسكرية على امتداد الحدود المشتركة بينهما.
وهنا تكمن مشكلة الهند، لكن هذا الوضع قد يشكل ميزة للولايات المتحدة، فمنذ أن بدأ القلق يساور المسؤولين الأميركيين حول صعود الصين في تسعينات القرن الماضي، بدأوا يتطلعون باتجاه الهند كثقل موازن. وتسببت الاختبارات النووية التي أجرتها الهند عام 1998 في حدوث توتر مؤقت في العلاقات بين الجانبين، ومع هذا زار الرئيس بيل كلينتون الهند عام 2000، واتجهت سلسلة من الرؤساء الديمقراطيين والجمهوريين إلى اعتبار مسألة بناء علاقة استراتيجية مع نيودلهي أولوية.
الملاحظ أن الحكومات الهندية نادراً ما تتحرك بالسرعة التي قد يرغبها نظراؤهم الأميركيون، وذلك لأسباب عدة منها أن الهيكل البيروقراطي يتحرك ببطء شديد حتى في الأوقات التي يتفق فيها القادة السياسيون من الجانبين. ويتمثل سبب آخر في التقليد المستمر للهند منذ حقبة الحرب البادرة والقائم على عدم الانحياز.
علاوة على ذلك، شكل التعاون الأميركي مع باكستان في مجال مكافحة الإرهاب في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001 نقطة خلاف بين نيودلهي وواشنطن. وخلال الفترة الأخيرة، تجنب المسؤولون الهنود الإقدام على أي خطوة من شأنها تحويل الصين إلى عدو صريح، بينما تشكل الصين اليوم أمام الهنود منافساً طبيعياً يتعين عليهم إيجاد سبل للتعايش معه.
ومع ذلك، فإن المنطق الجيوسياسي للدخول في شراكة مع الولايات المتحدة ازداد قوة بمرور الوقت، وذلك لأن الصين أصبحت أكثر قوة. وللمفكرين الاستراتيجيين الهنود كل العذر في التشكك في أن «مبادرة الحزام والطريق» الخاصة ببكين تمثل حملة تطويق ضد الهند، بالنظر إلى القوة التي تبني بها الصين وجوداً لها داخل باكستان وسريلانكا ومناطق أخرى على طول المحيط الهندي.
وعلى ما يبدو، فإن إقدام الصين على هذا الاختراق للحدود داخل أراض خاضعة للسيطرة الهندية، في غضون أقل عن ثلاث سنوات من أزمة حادة وقعت عام 2017، ذكرت المسؤولين الهنود بما يعنيه العيش إلى جانب قوة عظمى عدوانية واستبدادية. اليوم، اضطرت الهند إلى فرض حالة إغلاق على مستوى البلاد للتعامل مع فيروس بدأ داخل الصين، الأمر الذي زاد الطين بلة على مستوى العلاقات الثنائية.
من ناحية أخرى، من الملاحظ أن وتيرة الشؤون الأميركية ـ الهندية تسارعت في السنوات الأخيرة. وكان من شأن سياسية «التحرك شرقاً» التي انتهجها رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي وتنامي اهتمام الولايات المتحدة بمنطقة المحيط الهادي الهندي، خلق إطار عام من أجل تحقيق تعاون أفضل على المستوى الأمني.
ويشكل الحوار الأمني الرباعي، شراكة استراتيجية غير رسمية بين الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان، ائتلافاً ضمنياً (وإن كان ناشئاً) بين مجموعة من الأنظمة الديمقراطية في مواجهة الصين. عام 2019 و2020، تبادل رئيس الوزراء ناريندرا مودي والرئيس دونالد ترمب الزيارات، وشارك ترمب في مسيرة «هاودي مودي» في هوستون، ورد عليه مودي بمسيرة «ناماستي ترمب» في غوجارات.
وتكشف الأرقام عن ارتفاع مبيعات الدفاع والروابط العسكرية الأخرى بين الجانبين، مع إعلان ترمب عن صفقة أسلحة بقيمة 3 مليارات دولار بعد زيارته الهند في فبراير (شباط).
بجانب ذلك، تناور الهند من أجل أن تحل محل الصين داخل سلاسل إمداد عالمية معينة، ما يعتبر مبادرة رحب بها بالنظر إلى القلق الذي يساور المسؤولين الأميركيين حيال الاعتماد على بكين.
وستكون الهند صديقاً شاباً ونشطاً في وقت يتقدم الهرم السكاني داخل الكثير من الدول الحليفة في العمر. ومن المنظورين الرمزي والجيوسياسي، تبدو الهند نظاماً ديمقراطياً يتجاوز عدد مواطنيه مليار نسمة يسعى لتحقيق توازن أمام نظام استبدادي يتجاوز عدد مواطنيه مليار نسمة.
من الناحية الإقليمية، يبدو التعاون الأميركي ـ الهندي محورياً لضمان أمن منطقة المحيط الهندي والفوز بنفوذ أكبر في منطقة غرب المحيط الهادي. وإذا ما أقدمت واشنطن في أي وقت لفرض حصار في أعالي البحار ضد الصين، فإنها ستستفيد بشكل هائل من قدرتها على الدخول إلى جزيرتي أندامان ونيكوبار الهنديتين. ومن شأن وجود شراكة استراتيجية أميركية ـ هندية مواجهة الصين من خلال تشكيل تحد كبير على الجانب الغربي لها حال اشتعال حرب في شرق آسيا.
ومع ذلك، تبقى هناك عقبات، فالعلاقات التجارية بين الجانبين مفعمة بالمشكلات مع فرض كل جانب تعريفات على سلع الجانب الآخر ووضع إدارة ترمب نهاية لقدرة الصين على تصدير سلع بعينها من دون فرض جمارك عليها من خلال المنظومة العامة للتفضيلات. ولا يبشر أي من ولع ترمب بالعجوزات التجارية ولا تحركات مودي نحو حماية التصنيع الداخلي، بالخير.
وهناك السياسات الداخلية لمودي، ذلك أن الحملة الصارمة التي شنها في إقليم جامو وكشمير صاحب الأغلبية المسلمة، وفرض قانون المواطنة الذي تعرض لانتقادات باعتباره يمنح أفضلية لغير المسلمين، وتكرر أعمال عنف مناهضة للمسلمين، أثارت مخاوف من أن مودي يلجأ إلى سياسات قومية هندوسية تحريضية سبق أن تسببت في إصدار وزارة الخارجية في عهد الرئيس جورج دبليو. بوش حظراً ضده بخصوص الحصول على تأشيرة دخول الولايات المتحدة.
ومع أن ترمب لا يبدو مهتماً بمثل هذه القضايا، فإن الهند تمارس قمعاً سياسياً، وستبدو شريكا أقل جاذبية أمام الولايات المتحدة على المدى البعيد.
ومع ذلك، يبقى من المهم إبقاء هذه القضايا في حجمها المناسب، ذلك أن الخلافات الاقتصادية تبدو ضئيلة مقارنة بالمصالح الاستراتيجية. وسبق للولايات المتحدة التسامح إزاء أنماط أسوأ من التمييز الاقتصادي من جانب بعض حلفاء الحرب الباردة باعتبار ذلك ثمن تعزيز مواقفهم في مواجهة التمدد الشيوعي. واليوم، لا تزال الهند أكثر تعددية وديمقراطية عن عدد من الدول المحورية الأخرى التي يتعين على الولايات المتحدة التشبث بعلاقات وثيقة معها خلال السنوات المقبلة، مثل فيتنام والفلبين في ظل قيادة الرئيس الاستبدادي رودريغو دوتيرتي.
وأخيراً، يتعين على المسؤولين الأميركيين الحديث بحماس على المستويين الخاص والمعلن عندما تتعرض حقوق الإنسان أو الحقوق المدنية للانتهاك. وينبغي أن تعمل بقوة على تشجيع الإصلاحات الاقتصادية التي تحتاجها الهند لتصبح قوة مكافئة على نحو أكبر لبكين. إلا أنه ينبغي على واشنطن في الوقت ذاته إبقاء محور اهتمام العلاقة منصباً على ما يمكن له تحقيق تحالف أكبر بين الهند والولايات المتحدة: أمام البلدين الكثير ليكسباه إذا تمكنا من الوقوف معاً في وجه الصين، وأمامهما الكثير ليخسراه إذا لم يفعلا ذلك.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»
TT
أميركا والصين والهند وصياغة المشهد الاستراتيجي للقرن الـ21
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة