جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

حرب فيتنام تعود للواجهة

في شهر أبريل (نيسان) 1975 دخلت قوات جيش التحرير الفيتنامي، بقيادة الجنرال جياب، مدينة سايغون، عاصمة فيتنام الجنوبية، واضعة بذلك نهاية لواحدة من أسوأ الحروب التي خاضتها أميركا وأكثرها ضراوة، بعد الحرب العالمية الثانية، واستمرت نحو عقدين من الزمن. تلك الهزيمة لأقوى آلة عسكرية في العالم نُقشت مراراتها في الذاكرة الأميركية، وتبقّت بارزة كمحطة تاريخية تعلّم لواحدة من أشد فترات التاريخ الأميركي المعاصر اضطراباً وعنفاً.
وباستثناء شريطين سينمائيين، يعالجان ويقدمان حرب فيتنام من وجهة نظر فيتنامية، هما «حينما يأتي الشهر العاشر» و«كارما»، فإن كل ما شاهدتُ من أشرطة سينمائية حول تلك الحرب الدامية، أنتج في أستوديوهات أميركية، ومن وجهة نظر أميركية، وقام بتمثيله وإخراجه نجوم تمثيل ومخرجون أميركيون. وأفضلها، في رأيي الشخصي، اثنان؛ «صائدُ الغزلان» و«القيامة الآن».
هذا لا يعني أن بقية ما أُنتجَ وعُرضَ، على الشاشة الفضية، حول تلك الحرب كان قليلاً، أو مفتقداً للقيمة الفنّية والجمالية، والنجاح الجماهيري. إذ من ينسى، على سبيل المثال لا الحصر، شريطاً سنيمائياً بروعة تأجج الغضب في «وُلدَ في 4 يوليو»، أو بتميّز وخفة دم «صباح الخير فيتنام».
خلال سنوات الحرب، كانت شوارع المدن الأميركية المختلفة تموج بغضب وعنف، وعصيان مدني، ومظاهرات غير مسبوقة. الحركة الاحتجاجية تلك كانت بلونين، أسود وأبيض، وكانت تسير في خطين متوازيين؛ واحد ضد العنصرية، يطالب بالمساواة والحقوق المدنية للأقلية السوداء، يقودها القس مارتن لوثر كينغ، واتخذ نهجاً سلمياً، لكن فيما بعد تحوّل جزء منه إلى العنف ورفع السلاح في وجه الدولة، من خلال جناح أطلق على نفسه اسم «الفهود السود»، من أشهر قادته مالكوم إكس. وآخر مضاد للحرب في فيتنام، ويطالب بوقف الحرب، وبإعادة المقاتلين الأميركيين إلى بلادهم. هذه الحركة المضادة للحرب في فيتنام تمددت خارج أميركا، ووصلت إلى عواصم العالم الغربي الأخرى.
3 رؤساء أميركيين كانوا في القلب من تلك الحرب. اثنان من الحزب الديمقراطي، وواحد من الحزب الجمهوري. أولهم كان الرئيس جون كيندي، وحين اغتيل عام 1963 تولّى بعده إدارة الحرب نائبه ليندون جونسون، ثم أخيراً الرئيس ريتشارد نيكسون، الذي وقّعت إدارته على اتفاق السلام في باريس عام 1973.
تميزت الأشرطة السينمائية في المرحلة الأولى من الحرب بتبني الرؤية الرسمية، التي تسعى إلى تثبيت صورة الجندي الأميركي مدافعاً عن الديمقراطية والحرّية. ولعل من أشهر الأشرطة التي جسدت تلك الرؤية شريط «القبعات الخضر»، وقام بدور البطولة فيه النجم الراحل جون وين.
في النصف الثاني من السبعينات، بدأنا نشهد موجة ثانية من الأشرطة برؤية مناوئة للحرب، وبتفاصيل وحقائق تخالف ما كانت تحمله البيانات العسكرية الأميركية الصادرة عن مركز قيادة الجنرال وستمورلاند قائد القوات الأميركية في فيتنام.
لكن تلك الأشرطة جميعها، وعلى اختلافها، لم تتعرض لمحنة الجنود والمجندين الأميركيين السود في تلك الحرب، ومعاناتهم على مستويين عنصري وعسكري. وما واجهوه من تجاهل لتضحياتهم لدى عودتهم إلى بلادهم.
في عطلة الأسبوع الماضي، ورغم زحمة وسائل الإعلام بأخبار الحرب ضد الوباء الفيروسي فوجئت بخبر صغير في صحيفة بريطانية، لفت انتباهي، وأثار اهتمامي، مرفوقاً بصورة للمخرج الأميركي الأسود المشهور، والمثير للجدل سبايك لي. يؤكد الخبر قيام شركة الإنتاج السينمائي «نتفليكس» بإنتاج شريط سينمائي بعنوان «Da 5 Bloods» يتعرض للحرب في فيتنام، من خلال قصة 4 جنود أميركيين سود البشرة، يقومون برحلة إلى فيتنام للبحث عن جثة قائد وحدتهم العسكرية، وعن ذهب مدفون. ومن المتوقع أن يجد الشريط طريقه إلى العرض في الشهر المقبل. الشريط من إخراج سبايك لي.
واستناداً إلى إحصائيات صادرة عام 1967، كانت نسبة الأقلية السوداء في أميركا 11 في المائة من عدد السكان. لكنهم كانوا يمثلون نسبة 16.3 في المائة من نسبة عدد الجنود الأميركيين، ونسبة 23 في المائة من عدد القوات المقاتلة في فيتنام. وفي خضم الحرب وضراوتها، كانت نسبة المصابين من بينهم هي الأعلى، إلا أن هذه الحقائق الإحصائية ظلت لسنوات طويلة في غير متناول المواطنين الأميركيين، وتتعرض للتجاهل من وسائل الإعلام.
ذروة قصة الشريط السينمائي الجديد، وفقاً للخبر، تتمثل في مجموعة صغيرة من جنود أميركيين سود البشرة في أدغال فيتنام يستمعون إلى مذياع ينقل إليهم خبر اغتيال مارتن لوثر كينغ، وانعكاس الخبر عليهم، وهم بعيدون عن بلادهم وعائلاتهم، يعرضون أنفسهم للموت دفاعاً عن بلاد تجد صعوبة في الاعتراف بحقوقهم الإنسانية في المساواة، وتعدّهم مواطنين من درجة دنيا.
ما يلفت الاهتمام هو أن الشريط الذي تدور أحداثه حول الحرب في فيتنام سيُعرض في زمن حرب أخرى مختلفة ضد عدو غير مرئي. أعداد الضحايا في هذه الحرب الحالية تجاوزت أعدادهم في فيتنام. لكن القاسم المشترك بينهما هو أن نسبة أعداد الضحايا من الأميركيين السود في الحربين كانت للأسف الأعلى، وبشكل ملحوظ.