مها محمد الشريف
كاتبة سعودية مختصة بقضايا الشرق الأوسط والعالم، كتبت في العديد من الصحف الرسمية السعودية وصحيفة «الرؤية» الإماراتية، وتكتب بشكل دائم في صحيفتَي «الجزيرة» و«الشرق الأوسط». لها اهتمامات بالرسم والتصميم الاحترافي.
TT

«كورونا» أصبح جائحة سياسية

بعد أن بدأ «كورونا» كجائحة صحية أدت إلى تعطيل الاقتصاد العالمي، تحول إلى جائحة سياسية وملف يكبر يوماً بعد يوم، فقد أجهزت الانتكاسات والانهيارات الاقتصادية على دول العالم من دون استثناء بخسائر ضخمة، واحتار المفكرون والسياسيون في خياراتهم داخل مجتمعاتهم وخارجها؛ لم تكن تلك التداعيات مقتصرة على الحالات الصحية فحسب، فهناك خسائر كبيرة في الاقتصاد، ارتفعت معها نسبة البطالة وخسر الملايين وظائفهم، ومع ذلك استمرت التهديدات بين أميركا والصين، وتفاقمت الأزمات السياسية لتعود للساحة الدولية.
ومن منظور رسمي، ألقى الرئيس الأميركي دونالد ترمب وعدد من مسؤولي البيت الأبيض باللوم على الصين، متهمين إياها بإضرار العالم من خلال «كورونا»، وهو ما دعا البعض لشنّ حملات من أجل رفع دعاوى قضائية ضد بكين في الولايات المتحدة ومطالبتها بتعويضات عن هذه الأضرار.
فهل الدعوى القضائية الموجهة إلى الصين هي عن مسؤوليتها بالتضليل وإخفاء معلومات مهمة تتعلق بالفيروس التاجي، وتحميلها مسؤولية الوفيات في مختلف الدول، أم لدوافع سياسية لمعارك اقتصادية سابقة؟ والسؤال الأهم؛ كيف ستحرر بكين نفسها تدريجياً من هذه المسؤولية، وتواصل تركيز جهودها الصناعية وتنظيم عروضها التجارية واختراع ما يثير الإعجاب في محاولة لتعظيم تأثير الآراء المحايدة لجانبها؟
كان الاهتمام بالتفاصيل حاسماً، لأن العالم يريد نتائج علاج فيروس «كورونا» بالدرجة الأولى والأكثر أهمية، ولا يعنيه متابعة السجال والاتهامات بين الدولتين التي صنفت لاحقاً بأنها أزمة ثقة تتشكل بين البلدين، وذلك في وقت وصفت فيه صحيفة «بيبولز ديلي» الناطقة باسم الحزب الشيوعي الصيني، ذلك الأمر بالعار على الحضارة الإنسانية، وتساءلت عن أسباب عدم مقاضاة الولايات المتحدة وطلب تعويضات منها لتسببها في الوفيات حول العالم والخسائر المالية الناجمة عن وباء الإنفلونزا عام 1918، ومن قبله الإيدز، وكذلك الأزمة المالية العالمية عام 2008.
لا شك أن الواقع يعتبر نتاجاً لكل الأحداث التي تدور فيه، وما الأزمة الاقتصادية إلا إحدى هذه النتائج، وقد تشكلت في ظرف مفاجئ بسبب الجائحة الصحية، إلا أن التحول المتسارع نحو أزمات سياسية قد تنفجر لما هو أبعد من مجرد مناوشات عبر التصريحات النارية التي يطلقها الأميركيون، وتحديداً الرئيس ترمب، الذي وصف جائحة «كورونا» بأنها أعظم من هجوم بيرل هاربر وأحداث سبتمبر (أيلول) 2001، ما يعطي انطباعاً بأن ما يواجهه من أزمة يفوق ما واجهه سابقوه من رؤساء أميركا، ويأتي ذلك في ظل عدة اعتبارات مهمة؛ فعلى المدى المنظور يبدو أن الرئيس ترمب يريد أن يستفيد من هذا الملف، ليعزز موقفه في الانتخابات الرئاسية المقبلة بعد نحو 5 أشهر، في وقت فقد 39 مليون أميركي وظائفهم مع الإقفال الكبير، فلا يريد أن يظهر أمام الشعب بأنه يتحمل أي مسؤولية عن التدهور الاقتصادي، على اعتبار أن حكمه بالسنوات الأولى شهد انتعاشاً اقتصادياً ضخماً، فجاء هذا الفيروس المتناهي الصغر ليدمر ما حققه من إنجازات في 3 أعوام بظرف 3 أشهر، ولذلك هو يريد أن يوجه الأنظار لمصدر الفيروس، والمتسبب في انتشاره، ألا وهي الصين، وفي الوقت نفسه هو يؤسس لملف تحجيم الصين وكبحها، حتى لا تصبح القوة الأولى بالعالم اقتصادياً، وبالتالي عسكرياً وسياسياً، فالصين تمثل المنافس والخطر الأكبر على مكانة أميركا متسيدة العالم اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً.
لكن هذا الانتقال لتحويل «كورونا» إلى جائحة سياسية ينذر بخطر كبير يحدق بالعالم، وإذا ما تفاقم هذا الملف فإن العالم سيدخل في صراعات متشعبة لا يمكن الخروج منها إلا بصعوبة بالغة وبتكاليف باهظة، فالجائحة ستنتقل عدواها لتضرب العلاقات الأوروبية - الصينية، والأوروبية - الأوروبية من جهة أخرى، لأن الجميع لهم مصالح في مناطق جغرافية كثيرة، وسيستغلون تفاقم الأزمة لتحقيق أهدافهم بالسيطرة والتحكم بمصادر الاقتصاد العالمي وأهم أسواقه الناشئة تحديداً، فأوروبا تعاني اقتصادياً من ضعف النمو منذ سنوات، وتحتاج لأسواق جديدة وعلاقات تجارية وتدفق استثمارات كبيرة، وروسيا دولة تبحث عن مكان لها بالاقتصاد العالمي وحصة من التجارة الدولية، فهي دولة ورثت اقتصاد الاتحاد السوفياتي الهزيل، فالأزمات السياسية ستصل إلى مراحل صدامية قد تنزلق لمواجهات عسكرية إذا وصلت لمراحل متقدمة، ما يعني أنها ستكون حروباً عالمية مدمرة.
العالم بات أكثر قلقاً بتطورات «كورونا» المتلاحقة، بعد أن دخلت منعطفاً خطيراً، لتكون ملفاً سياسياً، وإذا لم يتم التحرك أممياً لاحتواء الملف السياسي للأزمة فإن العالم يواجه مصيراً مجهولاً وخطراً وجودياً وانعداماً للأمن والسلم الدوليين، وتوجهاً شعبياً في أوروبا تحديداً في المستقبل لاختيار قادة شعبويين، سيحوّلون دولهم لتكون منغلقة وعدائية، وتظهر النزعات الاستعمارية من جديد، ويدخل العالم في دوامة لا يعرف أين ستنتهي، وكم ستكون تكلفتها.