عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

حياتنا بعد الخروج من الحبس

الحذر هي أكثر كلمة تسمعها مع بدء عدد من الدول تخفيف الإجراءات المشددة التي فرضت لمواجهة جائحة فيروس «كورونا المستجد». فمنظمة الصحة العالمية شددت على أهمية توخي الحذر الشديد في الدول التي بدأت ترفع القيود، محذرة من انتكاسات خطيرة إذا لم يحدث الأمر بالتدرج، ووفق ضوابط لمنع انتشار الفيروس. الاتحاد الأوروبي أيضاً دعا أعضاءه للتنسيق والحذر، مشيراً إلى أن تخفيف الإجراءات سيصاحبه بالضرورة ارتفاع في الإصابات، ما يتطلب الاستمرار في اتباع سياسة «البعد الآمن» في الأماكن العامة. كذلك أعلنت كل الحكومات التي بدأت خطوات للخروج من العزلة التي فرضها فيروس «كورونا» أنها تفعل ذلك بحذر شديد وخطوات متدرجة، وسوف تسير وفقاً لرأي العلماء والمختصين حتى لا تفلت الأمور وترتفع الإصابات مجدداً، ما يهدد حياة الناس، وينسف جهود استئناف الأنشطة الاقتصادية.
هذا التشديد على مفردة «الحذر» سببه أن الحكومات تعرف أن هناك درجة من المخاطرة في تخفيف الإجراءات قبل التوصل إلى علاج ولقاح، لكنها في المقابل تعرف أنه لا بد من استئناف الحياة وعودة العمل والنشاط الاقتصادي بشكل متدرج. فالناس بدأوا يتململون من الحبس الذي طال، بينما يشعر كثيرون بالضغوط المالية والمعيشية والقلق نتيجة تعطل أعمالهم أو فقدانهم وظائفهم. ذلك أن الجائحة قلبت الحياة رأساً على عقب، وخلّفت أزمة مالية واقتصادية عالمية غير مسبوقة سوف تستمر تداعياتها لسنوات، مع التقديرات التي تشير إلى أن خسائر العالم خلال هذه الأشهر الخمسة تقدر بأكثر من 9 تريليونات دولار. الحكومات تشعر بهذه الضغوط المتراكمة، وتدرك أن حزم المساعدات المالية للناس وللأعمال لا يمكن أن تستمر طويلاً بهذا الشكل، وأنه لا بد من استئناف العمل وعودة دوران عجلة الاقتصاد، على الرغم من تحذيرات الخبراء من حدوث انتكاسات وعودة الإصابات إلى الارتفاع، بما يزيد احتمال موجة ثانية من «كورونا».
لهذا اختارت كل الدول التي بدأت تخفف إجراءاتها أسلوب التدرج، سواء في السماح للناس بحرية أكبر في الحركة، أو استئناف بعض الأنشطة الاقتصادية، مع مراعاة ضوابط «البعد الآمن»، وارتداء كمامات في وسائل المواصلات العامة أو في الأماكن الضيقة المغلقة، وأقلمة بيئة العمل، لمراعاة الجوانب الصحية، سواء بتغيير طريقة الجلوس في المدارس والمكاتب للاحتفاظ بمسافة مترين تقريباً بين كل شخص وآخر، أو بتوفير مطهر الأيادي وتعقيم بعض الأماكن.
الواقع أنه لا أحد يعرف بالضبط ما ستكون عليه الأمور، مع خروج الناس تدريجياً من الحبس واستئناف العمل والنشاط الاقتصادي، لذلك تراقب كل دولة ما يحدث عندها وعند الآخرين، وتضع احتمال إعادة فرض بعض القيود والإجراءات إذا عادت أرقام الإصابات بفيروس «كورونا المستجد» إلى الارتفاع بمعدلات عالية. فالحكومة البريطانية مثلاً واجهت أمس انتقادات شديدة في أول يوم لعودة كثير من الناس إلى مكاتبهم أو أعمالهم في عدد من القطاعات، وذلك بسبب مناظر الزحام الشديد في وسائل المواصلات العامة، وعدم الالتزام بسياسة «البعد الآمن»، بينما تجاهل كثيرون النصيحة بارتداء كمامات.
حكومة بوريس جونسون اتُهمت بأنها لم تستعد بشكل كافٍ لتخفيف القيود، وأن الوثيقة التي أصدرتها في 50 صفحة واعتبرتها بمثابة خريطة طريق اتسمت بالضبابية ولم تقدم تفاصيل كافية توضح خطوات العودة إلى العمل، والاستعدادات التي يجب توفيرها لحماية الناس وضمان التقيد بإجراءات الوقاية. فالحكومة مثلاً دعت الناس لاستخدام سياراتهم أو الدراجات أو السير على الأقدام ما أمكنهم ذلك لتخفيف الزحام في وسائل المواصلات العامة، لكنها تجاهلت أن أغلبية الناس يعيشون خارج لندن ويعملون داخلها، ويصعب عليهم الوصول بالدراجات أو على الأقدام، ولم تراعِ كذلك رسوم دخول السيارات إلى وسط المدينة والتكلفة العالية لمواقف السيارات التي تعتبر عوامل ردع لكثيرين من استخدام سياراتهم.
وزيادة في تعقيد الصورة حذرت دراسة أعدتها كلية لندن الجامعية نشرت في مجلة «لانسيت» الطبية، أمس، من أن هناك نحو 8 ملايين شخص في بريطانيا قد يواجهون مخاطر إذا عادوا إلى العمل في ظروف «كورونا» لأنهم يعانون من مشكلات صحية، مثل السكر والربو وأمراض القلب، إضافة إلى من يعانون من نقص المناعة لخضوعهم لعلاجات السرطان أو لأسباب أخرى. وأشارت الدراسة إلى أن أكثر من 73 ألف حالة وفاة قد تحدث، إذا عاد الأشخاص في هذه الفئات إلى العمل في ظل الجائحة الراهنة.
في ألمانيا أيضاً تراقب الحكومة التطورات بحذر، بعدما حدثت زيادة في الإصابات بالفيروس بمجرد البدء في تخفيف الإجراءات والسماح بفتح المدارس والمطاعم وبعض المتاجر، بينما استعد دوري كرة القدم للعودة، لكن من دون جمهور. فقد بلغ المعدل اليومي للإصابات نحو 1200 حالة الأسبوع الماضي، بينما سجلت أول من أمس 933 إصابة. ونتيجة لذلك قررت بعض المقاطعات، مثل شمال الراين فستفاليا، تأجيل عودة فتح المطاعم وصالونات الحلاقة وصالات الرياضة والمواقع السياحية، حتى يعود معدل الإصابات إلى الانخفاض.
ما يحدث في ألمانيا سيكون مؤشراً مهماً، لأنها كانت من بين أنجح الدول في كبح جماح «كورونا» والحد من معدل الوفيات، وأي انتكاسة مع تخفيف الإجراءات واستئناف بعض الأنشطة سترسل إشارة تحذير لدول أخرى تفكر في استئناف النشاط الاقتصادي والحد من القيود المفروضة، أو بدأت في ذلك بالفعل. وستكون هناك دروس أيضاً مما سيحدث في فرنسا والصين وكوريا الجنوبية بعد الارتفاع الطفيف في الإصابات الأيام الماضية.
لكن الاهتمام الأكبر قد ينصب على أميركا التي تعتبر الأولى عالمياً الآن في عدد الإصابات (1.4 مليون) أو الوفيات (أكثر من 83 ألفاً حتى أمس)، وبدأت بعض ولاياتها تخفيف القيود المفروضة، بينما يضغط الرئيس دونالد ترمب بشدة لإعادة تشغيل الاقتصاد، وعينه على الانتخابات الرئاسية المقبلة. فأي انتكاسة الآن في جهود احتواء فيروس «كورونا المستجد» الذي ضرب أميركا بعنف قد تؤدي إلى موجة ثانية ستكون لها تداعيات كبيرة سواء على الانتخابات، أو على الاقتصاد العالمي، أو على صعيد أرقام الضحايا. وكان لافتاً أن اثنين من أبرز خبراء الحكومة الأميركية في هذا المجال، وهما الدكتور أنطونيو فوشي، والدكتور روبرت ريدفيلد، ناقضا ترمب وحذرا من نتائج وخيمة إذا استعجلت الإدارة تشغيل الاقتصاد وسمحت بعودة الناس إلى العمل قبل السيطرة على المرض ومعدل الإصابات.
الناس سيخرجون تدريجياً من الحبس وستخفف القيود المفروضة بالتأكيد، كما أن الضرورة تحتم استئناف الأعمال والأنشطة الاقتصادية بشكل متدرج، لكن الحياة ستكون مختلفة تماماً عما كانت عليه مع استمرار إجراءات الوقاية مثل البعد الآمن، ولبس الكمامات واستخدام مطهر الأيادي، وتفادي الأماكن المزدحمة، والعودة إلى مكاتب ومدارس ومصانع يتباعد فيها أماكن الجلوس والوقوف. سيتأثر كثير من تفاصيل حياتنا لفترة، لا أحد يستطيع أن يحدد كم ستطول، بانتظار التوصل إلى علاج ولقاح... أو أن تحدث المعجزة ويضعف الفيروس ويختفي مثلما حدث لفيروسات أخرى.