من المفترض ألا تثير صناعة مسلسل درامي عن أهل دين أو طائفة موجودة في المجتمعات العربية أي ردود فعل غاضبة. هذه هي وظيفة الدراما في كل مكان، تركز على ظواهر اجتماعية، وتنسج عنها قصصاً تكشف تعقيدها ومشكلاتها.
القصة مختلفة الآن مع مسلسل «أم هارون» على قناة «إم بي سي» الذي يغوص في حياة عائلات يهودية عربية. فقد أخرِج المسلسل من سياقه الدرامي عن مكون اجتماعي عربي موجود، إلى مؤامرات واتهامات مكررة بالعمالة والتطبيع.
لكن علينا فعلاً أن نشكر الغاضبين على ردة فعلهم، فقد كشفوا بغير قصد المصدرين الأساسيين للأزمة، ومنها يمكن للإنسان أن يتعرف على الأخطاء الجسيمة التي حدثت في الماضي، وما زالت، وأدت إلى تفكيك المجتمعات العربية وإضعافها، وشحنها بالكراهية والبغضاء.
كشفت الأزمة عن البعد الدعائي الذي شوَّه أدياناً وطوائف معينة حتى سمم العقول تجاهها.
الدعاية المضللة المتواصلة منذ عقود وُظفت لتحقيق أهداف سياسية؛ حيث استخدمتها زعامات لرفع أسهمها القومية، وتعزيز طموحها التوسعي، والتغطية على فشلها في الإنجازات الاقتصادية، وهزائمها المذلة. لم تجد في المقابل إلا هذه الطوائف والأديان لتوجه لها تهم العمالة والخيانة، ما أدى لتهجيرها بعد موجات من الاضطهاد المستمر. أبواق الدعاية والتضليل أصبحت أدوات لبث التهم والشكوك حول ولاء وإخلاص هذه الفئات من المجتمعات، وتريد الآن أن تقوم بالشيء ذاته عبر تلطيخ مسلسل درامي، لا يمجدها، ولكنه يتكلم عن قضاياها كأي فئة اجتماعية أخرى.
ترفض الدعاية السامة أن يعترف بوجودها، وتمنع أن تستقبلها المخيّلة الشعبية بطريقة طبيعية كأناس طبيعيين. تريد أن تحذف وجودهم في الذهنية وكأنهم غير موجودين، وإذا وُجدوا فيجب التعامل معهم عبر العدسات التي تريدها؛ أي باعتبارهم خونة منحرفين وطابوراً خامساً مشكوكاً في ولائهم. هذا ما تقوم به جهات إعلامية ومنابر سياسية دعائية، تمجد شخصيات سيئة ومؤلفات وأدبيات مزيفة، والهدف زرع الشكوك العميقة في عقول المتابعين العرب، وخلق حالة من الاشتباه والريبة داخل المجتمع الواحد.
البعد الآخر هو ما تقوم به جماعات الإسلام السياسي؛ حيث تقوم حملتها وتعاليمها الأساسية للوصول لأطماعها في الحكم، على تصوير المسلمين على أنهم محارَبون ومضطهَدون، وبأنها المدافع عنهم بمواجهة الأعداء في الداخل والخارج. من بين الأعداء في الداخل العرب المنتمون إلى أديان مختلفة مثل اليهود العرب، فهؤلاء بسبب الدعاية القومية والدينية المستمرة منذ عقود طويلة أصبحوا هدفاً سهلاً لعمليات التشويه والتلطيخ من المتطرفين والمنتفعين باسم الدين، وذلك من أجل الدفع بأجندتها الآيديولوجية والسيطرة على عقول الجماهير. الآن هي غاضبة؛ لأن عملاً درامياً يتحدى تصورها ورؤيتها التي سممت بها العقول والأرواح، وتخشى أن تحل مكانها صورة أخرى أكثر إنسانية وواقعية.
من أكثر المشاهد المؤذية نفسياً وأخلاقياً أن ترى فئات اجتماعية كاملة، توضع كلها في صناديق، وتلطخ صورتها ويحط من قدرها، حتى تصبح مسألة اضطهادها والتعدي عليها مسألة وقت وأمراً لا يستنفر المجتمعات ولا يغضبها؛ لأن الخطاب التحقيري تسلل واستقر في عقولها مع مرور الزمن. نتذكر قصة النساء الإيزيديات التي يشعر الفرد بألم المأساة كلما تذكر مشاهد السبي فيها، والانتهاك على مرأى العالم، على يد عناصر تنظيم «داعش».
التضليل الدعائي والكراهية الدينية، كل منهما أدى إلى أضرار عميقة في نسيج المجتمعات العربية وتركيبتها، ومعرفة مصادر هذه الأكاذيب قد تكون الخطوة الأولى والصحيحة للخلاص منها، وطي صفحة ثقافة المؤامرات والدسائس والارتياب، واتهامات العمالة والخيانة التي نرى نتائجها ماثلة أمام أعيننا.
* المدير العام لقناتي
«العربية» و«الحدث»
7:44 دقيقه
TT
اليهود العرب والدعاية السامة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة