داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

الموتى لا يروون حكايات خرافية

كانت أفلام القراصنة في أعالي البحار خلال القرن الماضي من أكثر الأفلام نجاحاً وشعبية. وبرعت استوديوهات «هوليوود» في إضفاء توابلها من غرام وانتقام بين قبطان السفينة الخشبية ذات الصواري العالية والأشرعة البيضاء وابنة السلطان في السفينة التي تعرضت للاختطاف. كان حلم كل منا، في سنوات الشباب الذي «ألا ليت يعود يوماً فنخبره بما فعل المشيب»، أن يكون قبطاناً لسفينة الإنقاذ ليناسب الملك المغولي أو السلطان العثماني أو المهراجا الهندي صاحب مصانع الحرير.
يقول المؤرخ البولندي ياتسيك ماخوفسكي في كتابه «تاريخ القرصنة في العالم» الصادرة ترجمته العربية في القاهرة عام 2016، إن «كل البحار كانت تحكمها أساطيل القراصنة في العالم القديم». وشاعت قصص وروايات وأشعار القرصنة البحرية في كتب ودواوين بايرون وفولتير وصولاً إلى علي بابا والسندباد البحري في العصر الذهبي لميناء البصرة العراقي كما جاء في «ألف ليلة وليلة». كانت جنسيات القرصنة تضم أوروبيين وصينيين وهنوداً وعرباً وفُرساً وإندونيسيين وأفارقة. وألهم هؤلاء أدباء وكتّاب وشعراء تلك الأزمنة رومانسية صعاليك بحار الدنيا القديمة. كانت حياةُ القراصنة تعني لنا بحاراً عميقةً، وعواصفَ عاتيةً، وخلجاناً استوائيةً سريةً، وجزراً تحدّها الصخور، وصواريَ متعددة الأشرعة، وبَحّاراً بِسَاقٍ خشبيةٍ وآخر بعينٍ واحدةٍ، وقبطاناً صارماً في فمه غليون تبغ وأمامه زجاجةُ مُنكر! كانت السينما تتعمد تصوير القراصنة عموماً بهذا الشكل؛ رغم أن كتب التاريخ قدّمت لنا وجوهاً أخرى تتسم بالثورة من أجل الحرية والعدل والمساواة.
باختصار: ظهرت القرصنة مع ظهور الملاحة البحرية في العالم القديم أيام الفينيقيين الذين يُقال إنهم أقدم وأفضل من ركب البحر، ثم جاء بعدهم الإغريق والرومان. وأنا أتحدث هنا عن القرصنة، ولذلك أستبعد البحارة العرب من توصيف القراصنة لأنهم كانوا في فتوحاتهم البحرية وصلوا إلى الهند والسند شرقاً والأندلس غرباً ونقلوا إليها حضارات ما بين النهرين في العراق القديم والفراعنة في مصر، ثم الحضارة الإسلامية في الجزيرة العربية وسوريا والعراق ومصر وفلسطين والشمال الأفريقي كله.
لا أحد يعلم من هو الفنان أو القرصان الذي وضع تصميم علم القراصنة الشهير ذي الجمجمة والعظمتين. لكن القراصنة حول العالم اتفقوا، من دون عقد مكتوب، على رفع هذا الشعار فوق صواري سفنهم الخشبية الشراعية ذات المجاديف المتعددة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وهما العصر الذهبي لهذه المهنة. وشاهدنا في السينما مئات الأفلام الأميركية عن هذه المغامرات؛ من بينها «قراصنة الكاريبي» و«الكابتن فيليبس» عن القراصنة الصوماليين و«الجزيرة الغامضة» عن رواية لجول فيرن و«الأشرعة السوداء» و«سيد البحار» عن قصة سفينة بحرية تتعرض لهجوم غير متوقع من قبل سفينة ضخمة غير معروفة تخرج من الضباب في عرض البحر. ومن الأفلام القديمة عن سفن القراصنة فيلم «سيد الدماء» من إنتاج عام 1935 من بطولة إيرول فلين وأوليفيا دي هافيلاند. ونال فيلم «البجعة السوداء» من إنتاج عام 1942 جائزتي «أوسكار»؛ الأولى عن أفضل مؤثرات صوتية وأفضل موسيقى، والثانية عن أفضل تصوير ملوّن، وهو من بطولة تايرون باور ومورين أوهارا. كما أنتجت السينما الأميركية في عام 1942 أيضاً فيلم «حصاد الرياح العاتية» لمخرجه الشهير سيسيل دي ميل ومن بطولة جون واين وراي ميلاند، وفيلم «ضد كل الرايات» في عام 1952 عن قراصنة جزيرة مدغشقر الأفريقية من بطولة نجوم السينما الذين لا تنساهم الذاكرة أنتوني كوين وإيرول فلين ومورين أوهارا. وأخرج النجم الكبير الراحل أنتوني كوين فيلم «قرصان البحر الكاريبي» في عام 1958 عن جزيرة قريبة من مدينة نيو أورليانز الأميركية يسيطر عليها أحد القراصنة. وللنجم الشهير بيرت لانكستر فيلم من إنتاج عام 1952 اسمه «الكابتن القرمزي». والملاحظ أن السينما الأميركية حولت معظم قراصنة الأفلام إلى أبطال وعشاق ومحررين وثائرين ومصلحين اجتماعيين!
ندع الأفلام جانباً لنلجأ إلى القانون الدولي. تنص اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لسنة 1982 على أن جريمة القرصنة هي «أي عمل غير قانوني من أعمال العنف أو الاحتجاز، أو أي عمل سلبي يُرتكب في أعالي البحار ضد سفينة أو طائرة أخرى أو ضد أشخاص أو ممتلكات على ظهر السفينة أو على متن الطائرة في مكان يقع خارج ولاية أي دولة». وتم تعزيز هذه الاتفاقية في عام 1988 لقمع الأعمال غير المشروعة التي تشكل خطراً على سلامة الملاحة البحرية. ولأن القرصنة البحرية صارت من جرائم القرون الماضية، فقد تم إهمال تطبيق هذا الاتفاق الدولي إلى أن بدأت ظاهرة قراصنة الصومال في أوج أعمال العنف والميليشيات المسلحة في جمهورية الصومال في عام 2005؛ حيث تحولت إلى مشكلة دولية كبرى هددت فعلياً التجارة البحرية التي تمر من أمام المياه الإقليمية الصومالية أو على حدود تلك المياه. وكان القراصنة الصوماليون يستخدمون زوارق حديثة تعادل سرعتها سرعة سفن الشحن الضخمة. ومما سهل حركة القراصنة أنهم كانوا يملكون أجهزة اتصال ورصد حديثة تتيح لهم الاتصال بالأقمار الصناعية وتتبع حركة ناقلات النفط وسفن البضائع التجارية ومعرفة الموانئ التي انطلقت منها وخطوط سيرها واتجاهاتها ونوعية حمولاتها. ويعرف الجميع أن القرصنة البحرية صارت مهنة من يسعى إلى الربح السريع في الصومال الفقير، وتُقدر وسائل الإعلام أعداد المنضمين لهذه المهنة الخارجة عن القانون بآلاف عدة من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و35 سنة، ومعظمهم من خفر السواحل السابقين ولهم دراية واسعة باختطاف السفن، مما سهّل لهم قرصنة عشرات السفن الضخمة وناقلات النفط. وقد انحسرت هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة بعد استعادة جمهورية الصومال سيادتها على البلاد وتوقف أعمال العنف بشكل واضح.
وكرر النظام الإيراني في صيف عام 2019 الأسلوب الصومالي في قرصنة ناقلات نفط وسفن شحن تجارية في الخليج العربي من جنسيات مختلفة؛ من بينها ناقلة نفط بريطانية، وقصف سفن وناقلات أخرى، بالإضافة إلى عمليات إنزال جوي على هذه السفن من قبل قوات بحرية «الحرس الثوري».
لكن الأسابيع الأخيرة، في الشهر الحالي أبريل (نيسان) 2020، تحولت إلى مسرح زمني لعمليات قرصنة من نوع جديد؛ هي قرصنة سفن الشحن في أعالي البحار للاستيلاء على بضائع من نوع غير مألوف في القرصنة، وهو المستلزمات الطبية لمقاومة وباء «كورونا» من كمامات وقفازات وملابس واقية ومنظفات ومعقمات وأجهزة تنفس ولقاحات... وكل ما له علاقة بهذا الوباء الذي يطلق عليه البعض تسمية «الجائحة» وهي كلمة شبه منقرضة. لكن القراصنة في هذا التطور القرصني لم يعودوا أفراداً، فقد تحولوا إلى دول متقدمة. واستخدمت هذه الدول وسيلة جديدة للقرصنة هي دفع أثمان هذه الشحنات بالغة الأهمية لإنقاذ المرضى نقداً إلى الدولة المجهزة وهي في الغالب الصين. ومن هذه الأفعال السيطرة على 200 ألف كمامة كانت متجهة إلى ألمانيا، وقيل إن الولايات المتحدة اعترضت السفينة وصادرت الشحنة. كما تردد أن البحرية الإيطالية صادرت في البحر الأبيض المتوسط حمولة إحدى السفن من الكحول الطبي الذي يُستخدم في التعقيم وحولت مسارها إلى ميناء إيطالي. أيضاً قيل إن جمهورية التشيك استولت على سفينة محملة بـ680 ألف كمامة وعدد كبير من أجهزة التنفس كانت تتجه من الصين إلى إيطاليا المنكوبة. واختفت 6 ملايين كمامة واقية ألمانية في أحد مطارات كينيا. ووجد المغرب حلاً لتفادي المشكلة باعتماد شحن مواد التعقيم والكمامات وأجهزة التنفس المستوردة بطائرات ملكية وليس طائرات شحن عادية. وأقامت إسرائيل ممراً جوياً من 11 طائرة لنقل تلك المواد والأجهزة لتفادي سرقتها. واتهمت ألمانيا الولايات المتحدة باعتراض شحنة في تايلند من المعدات الطبية المستوردة لها صنعتها شركة أميركية في الصين، وحولتها إلى الأراضي الأميركية. كما اتهمت فرنسا الولايات المتحدة بتحويل وجهة شحنة من الأقنعة الطبية إلى أميركا كانت آتية من الصين إلى منطقة فرنسية موبوءة، بعد أن عرضت سعراً أعلى للجهة المجهزة كما قالت صحيفة «الغارديان» البريطانية.
لكن واشنطن تنفي هذه الاتهامات، في الوقت الذي أجبر فيه الرئيس الأميركي دونالد ترمب شركات بلاده على إعطاء الأولوية لطلبيات أميركية بعد أن تم تفعيل قانون الإنتاج الدفاعي. وبموجب هذا القانون أرغم ترمب شركة «3M» الأميركية الكبرى على التوقف عن تصدير كمامات إلى كندا ودول أميركا اللاتينية. وقامت فرنسا بدورها؛ حسبما ذكرت مجلة «إكسبريس» الفرنسية، بحجز أقنعة من صنع شركة سويدية كانت مخصصة لإسبانيا وإيطاليا.
القرصنة البحرية صارت «برية» و«جوية» أيضاً، مثلما قال عنوان أحد أفلام القرصنة الأميركية القديمة: «الموتى لا يروون حكايات خرافية».