خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

ما بين الرصافي والزهاوي

ساد ميدان الشعر في العشرينات والثلاثينات في العراق الشاعران الكبيران معروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي. وكان فيما بينهما ما يوازي ما كان بين شوقي وحافظ في مصر. نشأ الرصافي والزهاوي في بغداد، وتلقيا علومهما ودراستهما العربية فيها قبل أن يرحلا إلى الآستانة، حيث أصبحا نائبين في «مجلس المبعوثان». نتوقع أن يتطابقا في نزعتهما، ولكن ذلك لم يحدث. كان الرصافي محافظاً في نظرته، في حين مال الزهاوي للحداثة والعصرنة. طرح على المجلس منهاج الدراسة لكلية البحرية. لاحظ الزهاوي أن المنهج يشمل دروساً لصحيح البخاري. فوقف الزهاوي معترضاً قال إن هناك خطأ في التصور. أنبؤكم بأن الأسطول يسير بالبخار، لا بالبخاري.
أيد كلاهما السلطان خلال الحرب العظمى، فانبرى الرصافي لمناشدة العرب والمسلمين قائلاً:
يا قوم إن العدا قد هاجموا الوطنا
فانضوا الصوارم واحموا الأهل والسكنا
واستنفروا لعدو الله كل فتى
ممن نأى في أقاصي أرضكم ودنا
عار على المسلمين اليوم أنهم
لم ينقذوا مصر أو لم ينقذوا عدنا
خسر العثمانيون الحرب واستولى الإنجليز على العراق. ولكن الرصافي بقي على عدائه للإنجليز طيلة حياته، وكانت مشكلته مع الحكومة العراقية الحليفة للإنجليز. خاطب الشعب قائلاً:
للإنجليز مطامع ببلادكم
لا تنتهي إلا بأن تتبلشفوا!
وفي مناسبة أخرى قال:
هذي حكومتنا وكل شموخها
كذب وكل صنيعها متكلف
أما الزهاوي، فقد صرح علناً بحبه وتعلقه بالإنجليز والحكم الجديد. ما إن وصل بيرسي كوكس مندوباً سامياً على العراق حتى رحب به الزهاوي:
عد للعراق وأصلح منه ما فسدا
وابثث به العدل وامنح أهله الرغدا
هكذا تباين موقف الشاعرين من النظام والإنجليز. وانعكس ذلك في صدودهما عن بعضهما البعض. حاول الملك فيصل مصالحتهما ومقاربتهما. دعاهما لحفلة عشاء معه. وكان ديكاً رومياً محشياً على صينية من الرز. ما إن شرعوا بالأكل، والزهاوي يغرف الرز أمامه على الطريقة العربية حتى انهار الديك الرومي إلى جانبه فقال منشداً:
عرف الفضل أهله فتقدما...
وأسرع الرصافي لتكملة البيت فقال:
كثر النبش تحته فتهدما..!
كانت وليمة واحدة من الولائم التي حاول الملك اجتذاب الشاعر فيها إلى جانبه وجانب النظام القائم. ولم تسفر عن الكثير. بقي الرصافي متشبثاً بولائه للعثمانيين، وانطلق الزهاوي لتقبل النظام الجديد. ما إن أقاموا حفلاً كبيراً لعرض العلم العراقي الجديد حتى حضر الزهاوي على متن جواد. ترجل وألقى قصيدة حفظناها في كل مدارسنا.
عش هكذا في علو أيها العلم
فإننا بك بعد الله نعتصم
ولم يكن الرصافي حاضراً في ذلك الحفل.