تعيد دراسات المراجعة والتحليل الطبية توجيه بوصلة الاهتمام الطبي نحو الأسباب الواقعية لكثير من المشكلات الطبية وتداعياتها، وذلك بعيدا عن الأسباب التي قد تبدو عادة هي التي وراءها. وفي عدد 30 سبتمبر (أيلول) من «مجلة الحساسية والمناعة الإكلينيكية» Journal of Allergy and Clinical Immunology عرض الباحثون من نيويورك نتائج دراستهم حول أسباب حصول تفاعلات الحساسية القاتلة Fatal Allergic Reactions. وعلى الرغم من اعتقاد الكثيرين أن تفاعلات الحساسية من الأطعمة، جراء إما تناول أو ملامسة أو استنشاق أبخرة من تلك الأطعمة، هي التي تستحق مزيدا من الاهتمام، فإن الدراسة التي بين أيدينا توضح أن الأدوية هي بالفعل أكبر مصدر للوفيات نتيجة لتفاعلات الحساسية. وتحديدا لاحظت نتائج الدراسة أن نحو 60 في المائة من تفاعلات الحساسية التي أدت إلى وفاة المُعانين منها كانت بسبب تلقي أدوية Medication Allergies، بينما نسبة الوفيات الناشئة عن تفاعلات الحساسية من الأطعمة Food Allergies لم تتجاوز 7 في المائة. وهو ما علقت عليه الدكتورة إلينا جيرشو، الباحثة الرئيسة في الدراسة ومديرة مركز حساسية الأدوية بمركز مونتيفيور والأستاذة المشاركة في كلية ألبريت أينشتاين للطب في نيويورك، باختصار: «الأدوية مواد خطرة».
وقال الباحثون إنه على الرغم من توصل الباحثين في دول أخرى إلى حقيقة أن الأدوية هي المصدر الأكبر للوفيات بحالة العوار أو تفاعلات الحساسية السريعة والقاتلة، فإن المشكلة أقل وضوحا بالنسبة لما يجري في الولايات المتحدة، وأن أحد أسباب عدم الوضوح ذلك هو عدم وجود سجل وطني لحالات الحساسية القاتلة Anaphylaxis Deaths National Registry. والسجل الوطني لأحد الأمراض أو الأعراض المرضية أو الحالات الصحية الطارئة أو الوسائل العلاجية هو وسيلة لتجميع البيانات والمعلومات حول موضوع طبي معين، يجري تنظيمها بطريقة تُمكن من الاستفادة منها عند محاولة التحليل أو الدراسة، مثل فرع بيانات السجل الوطني للأورام في مستشفى ما يُظهر كيفية ومدى ارتفاع الإصابات بالحالات السرطانية بين النساء في عمر ما بين 40 و50 سنة وأنواع تلك الإصابات السرطانية وغيرها من المعلومات التفصيلية الأخرى التي ليس من الممكن الحصول عليها دونما تعاون جميع المستشفيات في تزويد السجل الوطني بالمعلومات.
وفي حالات تفاعلات الحساسية ينشط جهاز مناعة الجسم بشكل مُفرط ومتطرف تجاه مادة معينة دخلت إلى الجسم، ويعدها عدوا لا بد من القضاء عليه أسوة بالميكروبات، وفي محاولة القضاء عليها يُفرز مواد كيميائية قد تتسبب بأعراض مرضية في منطقة ما من الجسم أو قد تتسبب بتفاعلات ذات أعراض شديدة تنتشر في أرجاء واسعة من الجسم وبقوة تهدد سلامة الحياة كصعوبات التنفس وضيق مجاري النفس وهبوط في قوة ضغط الدم وغيرها من الأعراض التي قد تُؤدي إلى الوفاة حينما لا يجري التعامل معها طبيا بكفاءة وسرعة.
ولاحظ الباحثون في نتائجهم أن الولايات المتحدة واستراليا هما الأعلى في حصول تلك النوعية الشديدة من تفاعلات الحساسية بالمقارنة مع بقية الدول المتطورة. وكان الباحثون قد قاموا بتحليل وثائق الوفيات بقاعدة البيانات القومية الأميركية للوفيات U.S. National Mortality Data Base فيما بين عام 1999 و2010. ورصدوا حالات الوفيات بسبب تفاعلات الحساسية، ثم قاموا بتحليل المعلومات المتعلقة بأسباب نشوء تفاعلات الحساسية المميتة تلك. وتبين لهم أن السبب الأكبر هو تلقي الأدوية، وكان لدى نحو 60 في المائة من حالات الحساسية القاتلة. وفي 20 في المائة منها لم يُعرف السبب، وفي نحو 15 في المائة منها كانت بسبب السموم التي تدخل الجسم جراء قرص بعض أنواع الحشرات أو الزواحف، وفي أقل من 7 في المائة كانت الأطعمة!
وفي حالات الوفيات بسبب تفاعلات الحساسية من الأدوية، لم يُذكر أو يُتعرف على اسم السبب الدوائي في 75 في المائة تلك الوثائق، وبقية الحالات التي عُرف فيها نوع الدواء المتسبب بحالات الحساسية القاتلة كانت المضادات الحيوية هي السبب في 40 في المائة منها، واللافت للنظر هو السبب الثاني الأكثر شيوعا الذي كان مواد الصبغة التصويرية Radiocontrast Agents المستخدمة في فحوصات الأشعة، تليها في المركز الثالث أدوية العلاج الكيميائي لمرضى السرطان Chemotherapy Medications.
النتيجة الأخرى المهمة في نتائج الدراسة هو ملاحظة الباحثين تضاعف أعداد الوفيات بسبب حالات تفاعلات الحساسية الشديدة فيما بين 1999 و2010! والزيادة المضاعفة قد تكون بسبب تزايد تلقي المرضى للأدوية، وخاصة مواد الصبغة التصويرية، وقد تكون بالمقابل لعدم إيلاء هذا السبب الدوائي الأهمية المناسبة في توقع حصول تفاعلات الحساسية لدى المرضى وخاصة عند عدم اهتمام الأطباء والممرضين بسؤال المريض عن تاريخ إصابته بالحساسية سابقا أو معرفته بأي نوع من الحساسية لديه، وخاصة أيضا عند أولئك الأشخاص الأكثر عُرضة لاحتمالات حصول تفاعلات الحساسية القاتلة لديهم وهم فئة كبار السن بالعموم.
صحيح أن الأدوية في معظم الأحيان وسيلة لجعل حياتنا وحالتنا الصحية أفضل، إلا أنها لا تزال مصدرا لكثير من المشكلات، منها التفاعلات العكسية بين نوع من الدواء ونوع آخر منه يتلقاهما المريض في نفس الوقت، ومنها الآثار الجانبية وتُصنف تفاعلات الحساسية من ضمنها. واهتمام الأوساط الطبية باحتمالات حصول تفاعلات الحساسية لدى أي مريض يتلقى بعضا من أنواع الأدوية المعروف احتمال تسببها بها أو تلقي مواد الصبغة التصويرية هو من الأولويات في سؤال المريض وتجميع البيانات الطبية عنه منذ بدء دخوله إلى المستشفى أو مراجعته للطبيب في العيادة. واعتبار مواد الصبغة التصويرية دواء هو في الحقيقة أحد مظاهر الاهتمام بحماية المرضى وضمان سلامتهم.
* استشاري باطنية وقلب
مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
[email protected]
