جو نوسيرا
TT

روسيا وإغاظة الغرب

نشرت صحيفة «فايننشيال تايمز» مؤخرا مقابلة أجرتها مع رجل أعمال روسي يدعى سيرغي بوغاشيف. كان بوغاشيف ذات يوم حليفا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو يملك شركات في مجال بناء السفن والتشييد العقاري، علاوة على مصرف. وقد اشتهر بلقب «مصرفي الكرملين». إلا أن المصرف الذي يمتلكه انهار منذ سنوات قلائل، وفي عام 2012 صادرت الحكومة ترسانتين يمتلكهما لبناء السفن. وقدرت شركة محاسبية خاصة تدعى «بي دي أو» القيمة الإجمالية للترسانتين بـ3.5 مليار دولار، وتم بيعهما لإحدى الجهات المنافسة وهي «يونايتد شيببلدينغ كوربوريشن» مقابل 422 مليون دولار، حسبما أفادت الصحيفة.
جدير بالذكر أن رئيس «يونايتد شيببلدينغ كوربوريشن» آنذاك كان إيغور سشين، أحد أقرب معاوني بوتين ورئيس «روسنفت»، وهي شركة نفط حكومية. واشتكى بوغاشيف للصحيفة من أن رجال الأعمال في روسيا أصبحوا مجرد «عبيد». وأضاف: «اليوم في روسيا لم تعد هناك ملكية خاصة، وإنما فقط عبيد يمتلكهم بوتين».
وهنا يعود بنا الحديث إلى روسيا تحت قيادة بوتين.
لقد استفسرت عن الأمر، على أمل التوصل لما إذا كانت العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وأوروبا في أعقاب استيلاء روسيا على القرم تؤتي نتائج ملموسة. وأعتقد أن الإجابة التي خلصت إليها نعم، لكن ليس بالضرورة بالصورة التي تظنها.
يذكر أن الاقتصاد الروسي في تراجع منذ عودة بوتين للسلطة في مايو (أيار) 2012، والأسوأ من ذلك، أن سعر النفط يتراجع هو الآخر.
ورغم تزامن عدد من المشكلات المتفاقمة مع فرض العقوبات، فإنه من المستحيل الجزم بوجود علاقة ترابطية مباشرة بين الاثنين. أما التأثير المباشر للعقوبات، فالاحتمال الأكبر أن يتضح في المستقبل القريب، عندما تضطر الشركات الروسية لإعادة تمويل ديونها، رغم منعها من الدخول لأسواق رأس المال الأوروبية.
بيد أن النتيجة المؤكدة للعقوبات فهي تحفيزها للخصال الأسوأ لدى بوتين ومعاونيه، مما جعلها مكشوفة أمام الجميع. إن فكرة حكم القانون داخل روسيا كانت بمثابة خيال محض منذ أمد بعيد، لكن لسنوات طويلة عمد رجال الأعمال الغربيون والروس لاختلاق مبررات لهذا الوضع. ويرى هؤلاء أن خطأ ميخائيل خودوركوفسكي رجل الأعمال البارز، كان قراره الأحمق بمواجهة بوتين سياسيا.
إلا أنه منذ فرض العقوبات، نجد أن مطاعم «ماكدونالدز»، التي لم تواجه أي مشكلات قط من قبل داخل روسيا، خضعت فجأة لتفتيش صارم وأغلق بعض منها. وتواجه شركات غربية أخرى مشكلات مماثلة.
هناك أيضا مثال فلاديمير يفتوشينكوف، الملياردير الروسي الذي تولى إدارة «سيستما»، وهي مؤسسة تجارية ضخمة. وكان من بين الأصول المملوكة للمؤسسة «باشنفت»، وهي سادس أكبر شركة روسية بمجال النفط من حيث الإنتاج. الشهر الماضي، تم فرض الإقامة الجبرية على يفتوشينكوف، وواجه اتهامات بغسل الأموال. وبعد عقد جلسة استماع بإحدى المحاكم، صادرت الحكومة أسهمه في «باشنفت». يذكر أن يفتوشينكوف لم يشكل مصدر تهديد لبوتين، إلا أن هناك اعتقادا واسعا بأن أصول «باشنفت» وجدت طريقها أخيرا إلى سشين، وأصبحت جزءا من «روسنفت». وقد طلبت الأخيرة من الحكومة إعانة بقيمة 40 مليار دولار لمساعدتها على الصمود في وجه العقوبات الغربية، ولا شك أن منحها أصولا بثمن زهيد من بين سبل المساعدة.
من ناحيته، علقت كارين دويشا، خبيرة الشؤون الروسية بجامعة ميامي في أوهايو، التي ألفت كتابا جديدا بعنوان «حكم عصابة بوتين»: «القاعدة الأولى بالنسبة لبوتين هي ضرورة حماية رجاله، وهو يصدر بالفعل إشارات في هذا الاتجاه. لقد بدأت روسيا في التحول بعينيها تجاه صناديق المعاشات، وأقرت تخفيضات كبيرة في الموازنة الصحية. ومع ذلك، ستبقى أولوية الخدمة لرجال بوتين قبل باقي الشعب».
الملاحظ أنه لدى فرضها للعقوبات، استهدفت إدارة أوباما ونظيراتها في أوروبا تحديدا، الأفراد والشركات الأقرب لبوتين. ومن خلال رد الفعل الذي أبداه، فإن بوتين يثير الذعر ليس للمستثمرين الأجانب فحسب، وإنما أيضا لرجال الأعمال الروس أنفسهم. لكن لا يبدو أنه يعبأ كثيرا لهذا.
لقد بدأ البرلمان الروسي عملية تمرير قانون، من شأنه السماح للحكومة بمصادرة أصول الشركات الأجنبية ـ واستغلالها في ملء جيوب كبار رجال الأعمال وغيرهم ممن تضرروا ماليا بالعقوبات. ويطلقون على القانون اسم «قانون روتنبرغ فيلا»، على اسم أركادي روتنبرغ، رجل الأعمال البارز الذي تم تجميد 4 فيلات فخمة يمتلكها في إيطاليا بسبب العقوبات. ويعد هذا القانون المقترح خطوة سلبية على درجة من الحماقة، دفعت حتى بعض أعضاء الحكومة للاعتراض عليه. ومع ذلك، يكاد يكون تمريره في حكم المؤكد.
وهكذا، يبدو أن روسيا في مواجهة العقوبات تلحق مزيدا من الأذى بنفسها في خضم محاولاتها إغاظة الغرب.
* خدمة «نيويورك تايمز»