عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

الأخبار بين الحقيقي والمزيف

قدم حزب المحافظين شكوى ضد تلفزيون القناة الرابعة إلى مكتب (مصلحة) الاتصالات، الجهة المستقلة المسؤولة عن البث الإذاعي والتلفزيوني وتتابع التزام الشبكات باللوائح والشروط.
المحافظون يتهمون القناة، اليسارية النزعة، بخرق لوائح البث برفضها إشراك وزير البيئة مايكل غوف عند وصوله إلى الاستديو في مناظرة، بين سبعة أحزاب، عن البيئة ومكافحة التغيير المناخي. معدّ البرنامج رفض بحجة أن المناظرة للزعماء فقط وهو مجرد وزير، رغم أن غوف متخصص في ملف البيئة. ووضع معد البرنامج تمثالاً من الثلج محل رئيس الوزراء بوريس جونسون في أثناء المناظرة.
في سوابق أخرى وضع معد برنامج «عندي أخبار لك» وعاء من شحم الطهي، كبديل لنائب حزب العمال الأسبق روي هترسلي عندما رفض الظهور قبل ربع قرن؛ وأكثر من مذيع أجرى حواراً مع «كرسي فارغ» عند رفض المسؤول الظهور للإجابة.
وعاء الشحم كان في برنامج فكاهي، والكرسي الخاوي كان في مقابلة مباشرة وليست مناظرة في أثناء الانتخابات تؤثر على الرأي العام بين عدة أحزاب حُرم فيها حزب المحافظين من حق الرد على آخرين يهاجمونه غيابياً.
الصحافة نشرت توعد المحافظين القناة الرابعة بالنظر في لائحة الدعم بعد الانتخابات إذا وصلوا إلى الحكم. مؤيدو المحافظين قالوا إن الخبر مزيف «fake - news».
تعبير الأخبار المزيفة لم يكن دارجاً بين المنشغلين بالصحافة والسياسة حتى ثلاثة أعوام مضت. ظهر مع المعركة، غير المسبوقة والمستمرة، بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب ومؤسسة الصحافة الليبرالية العالمية وليس فقط الأميركية.
الرئيس ينازل، أحياناً كدونكيشوت وأحياناً خصوماً حقيقيين لا طواحين هواء، في ساحة «تويتر» بسلاح الكلمات. الخصوم يمتلكون أساطيل وجيوشاً من الصحف والشبكات الإذاعية والتلفزيونية.
كيف يتجرأ «الغريب» عن المؤسسة المحسوب شخصياتها كأوراق «الكوتشينة» وينجح في الانتخابات الرئاسية؟
لا بد أنه «خدع» الناخب الجاهل غير الواعي العنصري (إلخ... إلخ)، رغم أن المؤسسات الصحافية بكل أنواعها قدمت له الأخبار والمعلومات (غير المزيفة)، لكن الناخب البليد، وياللهول (باستئذان عميد الدراما يوسف بك وهبي) لم يسمع الكلام. الأخبار وأعمدة الرأي وتحقيقات الصحافة والشبكات منذ انتخاب ترمب قبل ثلاثة أعوام تذكّر الناخب المخدوع بأن «يسمع الكلام» في المرة القادمة وينتخب ما تنصح به الصحافة في أخبارها «غير المزيفة».
تعبير الـ«فيكنيوز» (الأخبار المزيفة) الذي ظهر في السنوات الأخيرة هو يافطة جديدة لبضاعة قديمة، اسمها القصص الملفقة، والأخبار الفالصو أو «المفبركة» من الفعل الجديد نسبياً. «فبرك» أي صنع، فقد كان المجمع اللغوي في مصر أجاز القرن الماضي استخدام الصحافة لكلمة «فابريقة» من العثمانية ومن الإيطالية «فابريكة» أي مصنع أو معمل.
وهناك كثير من الحكايات عن تعمد صحافيين فبركة الأخبار أو جزء منها، أو وقوعهم ضحايا القصص الملفقة بعمليات احتيال أو نتيجة تكاسلهم.
أعرف زميلاً سابقاً مراسلاً بريطانياً مشهوراً -من أصل آيرلندي- في بيروت (يعده اليسار البريطاني والعربي قدوة كبيرة) يخترع شخصيات «يفبرك» مقابلات معها لتؤكد جوهر رسالة يروّج تقريره الذي عادةً ما يخلط فيه بين الرأي والخبر. وعلى سبيل المثال لا الحصر: كان معنا قبل أعوام في عشاء اجتماع مغلق مع رئيس أركان جيش بلد شرق أوسطي. لم ينتهِ الاجتماع إلا بعد منتصف الليل وإذا بتقرير باسمه في صحيفته بوجوده مع الجيش في معركة وهمية دارت وقت حضوره العشاء مع رئيس الأركان!
في مسرحية «أصل وصورة» للمسرح الكوميدي منذ قرابة ستة عقود، اقتباس سمير خفاجي وبطولة الكوميديانين أمين الهنيدي ومحمد عوض، لعب الأخير شخصية صحافي نسي نفسه طوال المساء مع غانية حسناء في كباريه بدلاً من الذهاب إلى المطار لمقابلة أغنى مهراجا في العالم، ويفيق في اليوم التالي ليكتشف أن المهراجا الذي «فبرك» مقابلته الوهمية مؤكداً أنه حضر إلى القاهرة خصيصاً لأكل «الملوخية» لا يزال في دلهي لتعطل طائرته.
وأذكر حادثة حقيقية بطلها زميلنا الراحل جون بوللوك، يوم اغتيال الرئيس أنور السادات في 1981، أراد أن ينفرد بزاوية خاصة للموضع فاختفى لساعات ليعود إلى مكتب «رويترز» في القاهرة وكان يديره الصديق الزميل جوليان ناندي. قال بزهو إنه انفرد بمقابلة خاصة مع أول رئيس مصري، المرحوم اللواء محمد نجيب، وكان معزولاً في ضاحية المرج. أراد بوللوك إرسال صورته مع الرئيس نجيب بالراديو فنظرنا جميعاً إلى الصورة وقلنا: «هذا ليس نجيب». كان الزميل قد أدار سراً رقم محمد نجيب من دليل تليفون القاهرة فردّ عليه نصّاب أخذ منه خمسمائة دولار مقابل أن يصحبه لمقابلة والده الرئيس الأسبق! وفي مشهد فريد لم أرَ مثيلاً له طوال خمسة وخمسين عاماً في الصحافة: مراسل لا يطلب حجز الصفحة الأولى لسبق صحافي بل يصرخ في التليفون للديسك: «شيلوا المقابلة التي أمليتها تليفونياً... لا تنشروها... لا تنشروها».
هناك أقوال مأثورة وتعريفات لما هو الخبر. ما أفضله قول عملاق الصحافة الإنجليزية ودعامة فليت ستريت اللورد نورثكليف (1865 - 1922): «الخبر الصحافي هو معلومة يريد البعض إخفاءها... أما الباقي فهو مجرد ريكلام (إعلانات)». وكصحافي يشك في أي معلومة يسرّبها أو يتكرم بها مسؤول، أتقدم بتعريفي الخاص للتعبير الجديد «فيكنيوز» (أخبار مزيفة... القذيفة التي يرد بها الرئيس ترمب على هجوم الصحافيين): «أي خبر أو معلومة أو وجهة نظر لا تعجب المسؤول أو يراها رجل السياسة تقليلاً من رصيده الانتخابي».
أضيف إلى التعبير أعلاه أن أي بوست على «فيسبوك» أو «إنستغرام» أو تغريدة على «تويتر» ليست على مزاج من يقرأها، بصرف النظر عن مكانته وتناقض نظرته للعالم، يعدّها فوراً «فيكنيوز».
الطريف أن الصحافة نفسها التي تنشب مخالبها بعضها في رقاب بعض لانقساماتها وتحزبها المنحاز الذي لا تخفيه في الانتخابات أو بشأن «بريكست» أو في حملتها لسحب البساط من تحت الكرسي الرسمي في المكتب البيضاوي، تتفق على أمر واحد وهو تحميل وسائل التواصل الاجتماعي مسؤولية الـ«فيكنيوز» وتطالب بقوانين لضبطها.
فوسائل التواصل الاجتماعي أصبحت شبكات أخبار مستقلة للمواطنين تهدد احتكار المؤسسات التقليدية في صرف «روشتة» الخبر كالدواء الذي وصفه طبيب هيئة المنتفعين لسلامة القارئ والمتفرج وصحتهما، مما يضع تعريف اللورد نورثكليف، قبل «فيسبوك» و«تويتر» بمائة عام، في إطاره التاريخي.