تعالوا نستعد نضارة عروبتنا

طال الانتظار... أسبوع وراء أسبوع، وشهر وراء شهر، وما زلت، وآخرون، في انتظار اجتهادات من جانب الطبقة السياسية في الدول العربية. كنت أتمنى أن نكون في انتظار مواقف حازمة وحاسمة ومعلنة، ولكن؛ تعلقاً بالممكن، رضينا بأن تكون الاجتهادات منتهى أمانينا. حيثما خرج محلل سياسي متحلل من كل رغبات السلطة والمصلحة الذاتية، بتحليل يحمل نبرة انتقاد أو احتجاج على قرار أو سياسة، خرج مسؤول سياسي أو وكالة إعلامية رسمية برد يتصورونه مفحماً... «لا أحد من المواطنين مطلع على المعلومات كافة المتعلقة بعملية صنع هذا القرار أو تلك السياسة، وبالتالي لا أحد يحق له أن ينتقد أو يحتج».
***
الرد قديم قدم مهنة السياسة، ولم يعد مقنعاً لأحد. اتصل بي صديق قضى معظم أيام الأسبوع الماضي متابعاً تطورات عمليتي الاحتجاج في كل من العراق ولبنان. تفهمت ثورته على ساسة البلدين. ذكرني غاضباً بساعات كثيرة قضيناها معاً في صحبة شخصيات مرموقة من السياسيين العرب، جرى الحديث خلالها عن المعلومات الغزيرة التي تناقلتها أدوات التواصل في شأن أكثر من قضية وشخص وحالة. خلصنا وقتها إلى أن الأوضاع العربية تتدهور كل يوم عن اليوم السابق. يظهر لنا أن دولة عربية في حال أفضل من جارتها، لنكتشف؛ بمقارنة المعلومات المتاحة، أن ما ظهر لنا ليس أكثر من خداع نظر، أو عدم توخي الدقة في الحساب أو التحليل، أو كليهما. أعترف، وأنا غير سعيد بدوافع اعترافي، أنه لم تمر علينا على طول أيام عملنا العربي المشترك، أيام أسوأ من هذه الأيام التي أراقبها أنا ورفاق سلكنا معاً دروباً كثيرة. لكم جميعاً حق السؤال: بأي معايير تحكم يا صديقنا على أيام كانت أحسن وأيام هي الأسوأ؟
***
كنا عرباً. اخترنا، أو على الأقل لم نرفض، أن تضمّنا؛ نحن المتحدثين بالعربية، منظمة إقليمية، أو قومية، عربية. كانت لنا مواقف، وكنا رواداً في كثير من الساحات الدولية بفضل جودة المواقف التي اتخذناها وتمسكنا بها، وفضل جهودنا لنشر أفكار التحرر والاستقلال. لم نستخدم عناصر الفرقة لنكسب مؤيدين. رفعنا شعارات نهضت باسمها شعوب العالم المتقدم، وفي صدارتها شعار القومية، واثقين من حاجتنا إلى بعضٍ من عصبية قومية مدنية، ومعها الحرص على شيء ما من عدالة اجتماعية، وتعاون بين مختلف فئات المجتمع. أبحث الآن في ممارسات وعقائد حكومات المنطقة عن عروبة، فلا أجد؛ إلا إذا بالغت أو كذبت. وجدت وطنية محمودة ومطلوبة للبناء والاستقرار، فضلوا لها بعد قليل أن تكون سلاحاً يثير غيرة وطن مجاور، أو أن تكون الخصم اللدود للعروبة. تجاهلوا فضل الوطنية على بنية صرح العروبة بوصفها قوة إقليمية دافقة في خدمة مصالح الوطن القطري. سألت عن العدالة الاجتماعية، فجاء من يحيلني إلى شاشة التلفزيون حيث الجماهير تغصّ بها شوارع وساحات عدد من دول العالم العربي. شباب تغلي عروقهم وحناجرهم بالسخط على الظلم الاجتماعي، واحتجاجاً على فجوات الدخول الرهيبة، والنقص الشديد في جميع الخدمات من دون استثناء. كانت مشاهد صارخة لشعوب في أمة قضت نصف قرن تحاول أن تنهض.
***
سنوات كثيرة قضيناها نحلم بأن الديمقراطية ستكون من نصيب هذه الأمة بعد أن صارت من نصيب أمم كثيرة في أميركا اللاتينية وآسيا وأوروبا الشرقية. لم يتحقق الحلم بالديمقراطية؛ كما لم تتحقق أحلام أخرى. صادفت العولمة في زحفها على منطقتنا زحف التعددية الهوياتية. فجأة، وقبل أن تترسخ العروبة بوصفها قومية، والقطرية بوصفها وطنية، هبّت رياح الطائفية والتقسيمات المذهبية.
اجتمعت في سماوات بلادنا كل القيم التي حملتها العولمة. كنا نسعى إلى الكل، فوجدنا أنفسنا ننفرط إلى أجزاء، ثم إلى جزيئات. أمتنا كانت تحلم بدولة عظيمة الاتساع؛ من محيط إلى خليج، رفيعة الثقافة، تقدمية الهوى. لم يسعفها الحظ، وبعض شعوبها لم تستفد بالاستقرار الذي وفرته لها قسوة في المحافظة على الأمن وأوتوقراطية في الحكم، ولا استفادت من وجود حكومات غربية في الولايات المتحدة وفي أوروبا حريصة على دعم المجتمع المدني في كل دول العالم العربي. بعدها دخلت المنطقة العربية بإرادتها الحرة غالباً لتمكث دهراً وأكثر مستظلة بجبهة من دول اختارت حكم الرجل الفرد مثل روسيا، وحكم الحزب الواحد مثل الصين، واحتمت بالرئيس دونالد ترمب الأوتوقراطي الطبع والشعبوي في أسلوب حكمه واليميني الميول.
***
الروس دخلوا السوق بشركة «واغنر» ودول أوروبية مثل إنجلترا وفرنسا وباكستان. لا أحد ينكر أن شركات المرتزقة الأميركية كانت في العراق قبل وصول ترمب إلى الحكم، ولكن لم يصل تصورنا في ذلك الحين إلى أن يصل ابتزاز العرب لهذا الحد بعد التخلص من عهد صدام حسين. عرفنا عندئذ أن القوات الأميركية التي احتلت العراق ساهمت في عملية انفراط العراق وإثارة نعرة طائفية تمزق الآن شعوباً عربية أخرى خارج العراق.
***
تراجعت «العروبة» بكل معانيها. لا يوجد في سلوكياتنا الجمعية؛ بل والفردية، ما يثبت للآخرين أننا نتصرف بصفتنا عرباً. منذ مدة غير قصيرة لم نتخذ موقفاً حاسماً ونافذاً وفاعلاً من قضية أو دولة تهدد بتصرفاتها أمن الأمة العربية. بيانات الجامعة العربية في شأن إيران أو إسرائيل أو تركيا تصدر فاقدة الأثر.
هل من طريقة أو خطة نستعيد بها نضارة عروبة قصّرنا في المحافظة عليها وحمايتها وتنميتها؟