حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

تركيا في سوريا: تاريخ يحدد المستقبل!

وظيفة قراءة التاريخ هي الاستفادة مما حدث وتوقع ما هو آت. ولعله من المفيد جداً اللجوء لقراءة متأنية للتاريخ لمحاولة فهم ما يحصل من الأتراك في سوريا. بعد انسحاب حافظ الأسد بقواته من دون قتال من هضبة الجولان في عام 1967، أثار تصرفه الكثير من الريبة والشك بين قيادات حزب البعث، فبادر بالانقلاب الاستباقي عليهم، وألقى القبض عليهم، وفر مؤسس الحزب ميشيل عفلق إلى العراق ليقيم فيها حتى وفاته.
تأثر حافظ الأسد بفكر أنطون سعادة الفاشي، مؤسس الحزب القومي السوري الاجتماعي، الذي كان يرى «العرق» السوري أرقى الشعوب العربية وأنقاها، وهذا التفكير كان موجوداً نتاج الهوس بالنموذج النازي في ألمانيا ومثله في إيطاليا، وولادة نماذج عصرية مهووسة بصفاء «العرق» وتميزه مثل «تركيا الفتاة» و«مصر الفتاة»؛ إنه الهوس العنصري المريض. ومن أهم أهداف الحزب القومي السوري الاجتماعي هو توحيد جغرافية سوريا الكبرى وإعادتها موحدة، وهو ما بدأ حافظ الأسد بتنفيذه فعلاً، «فاحتلال» لبنان فعلياً والسيطرة عليه، وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية منه وزرع فصائل منافسة لها تجعل القرار الفلسطيني بيد الأسد، وكذلك العمل المستمر على زعزعة نظام الأردن؛ لأن كل هذه الدول في قناعة الحزب القومي السوري الاجتماعي تقع ضمن سوريا التاريخية الكبرى ويجب أن تعود إليها.
اليوم دخول القوات التركية إلى الأراضي السورية له علاقة بقراءة تاريخية مهمة جداً. والأتراك لديهم حلهم الجغرافي أيضاً. بعد استسلام تركيا عقب الحرب العالمية الأولى انعقد البرلمان العثماني قبل حله في عام 1920 وأقر خريطة الحدود القومية لتركيا، واعتبرت فيها الحدود الجنوبية مع سوريا والعراق بما فيها سناجق ولواء إسكندرون وحلب والجزيرة والموصل والسليمانية انطلاقاً من كسب شمال اللاذقية حتى جنوب كركوك إلى حدود إيران. ومع أن معاهدة «سيفر» حددت ورسمت حدود تركيا مع سوريا، لكن الأتراك رفضوها وخاضوا حرباً لتغيير الأمر على أرض الواقع، وعدلت الاتفاقية والحدود عن طريق عصبة الأمم في مؤتمر لوزان، نتج منها الحدود السورية - التركية الحالية ما عدا لواء إسكندرون الذي بقي مع سوريا حتى أن قامت فرنسا لاحقاً بتقديمه لتركيا مقابل عدم دخول تركيا في الحرب لصالح ألمانيا في الحرب العالمية الثانية.
بعد اتفاقية لوزان استمرت مطالبات تركيا بالموصل والسليمانية وبقيت الملفات في عصبة الأمم إلى أن تم اتفاق أنقرة وقبلت تركيا فيه التنازل عن الموصل مقابل حصولها على 10 في المائة من عوائد بترول الموصل وكركوك لفترة 25 سنة. واستمرت في الحصول عليها حتى عام 1954 ثم توقفت بعد انقلاب 1958 في العراق. وفي عام 1974 وقّعت اتفاقاً غامضاً مع العراق لتصدير نفطه عبر أحد موانئها، وكان أحد بنوده المريبة «حق تركيا في استعادة أراضيها في حال تفكك سوريا والعراق» بناءً على استفتاء لسكان هذه المناطق.
إردوغان كرر أكثر من مرة أن كل اتفاقيات عصبة الأمم مدة سريانها هي فقط 100 عام، وبالتالي اتفاق لوزان سيصبح باطلاً في 2023 (حتى وإن لم يذكر ذلك صراحة) تماماً كما أعادت بريطانيا هونغ كونغ للصين، وأعادت البرتغال ماكاو للصين بعد انتهاء المائة عام، وعليه فهو يعتقد أن تركيا لها «الحق» في استفتاء سكان المناطق (كما حصل في تيمور الشرقية وجنوب السودان) إذا رغبوا في العودة إلى تركيا الأم، وتشمل هذه المناطق حالياً حلب وإدلب (التي تسيطر عليها فعلياً) وريف حلب والمنطقة الكردية شرق وشمال الفرات، والموصل وأربيل والسليمانية في العراق. كل هذا الحراك التركي قد يكون تجهيزاً على تغيير الواقع على الأرض استعداداً لمرحلة ما بعد انقضاء اتفاق لوزان 2023 وتحضير الأجواء الشعبية للاستفتاء.
التاريخ مدرسة المستقبل، ولكل إمبراطورية وفاشية أحلامها التي تكون كوابيس على المنطقة ثم عليها بعد ذلك.