شارلز ليستر
- زميل ومدير قسم مكافحة الإرهاب بمعهد الشرق الأوسط
TT

«حرب داخل حرب» تنذر بازدهار «داعش»

أفضى التوغل العسكري التركي عبر الحدود في شمال شرقي سوريا إلى فورة جديدة من الاضطرابات والتهديدات. وإنْ تُركت من دون التعامل معها، فإن تداعيات هذه «الحرب من داخل الحرب» سترجع بآثار مزعزِعة للاستقرار بشكل كبير على المنطقة لسنوات عديدة مقبلة. إثر مكالمة هاتفية بين الرئيس دونالد ترمب، والرئيس التركي رجب طيب إردوغان، صدرت الأوامر من الإدارة الأميركية لنحو مائة جندي أميركي بإخلاء مواقعهم على طول الحدود السورية - التركية، ما يزيل العقبة الوحيدة المتبقية، حتى ذلك الحين، والتي كانت تحول بين تركيا وبين العبور العسكري وشُنَّ الهجوم. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي لم يمنح نظيره التركي الضوء الأخضر «لفظياً» بشأن التوغل، فإن قراره كان يمكن قراءته بطريقة واحدة فقط في أنقرة.
واحتمال اندلاع حرب تركية - كردية وحرب من فصائل المعارضة الكردية يتعذر علاجها في شمال شرقي سوريا هو من سيناريوهات الأحلام التي تراود مخيلة تنظيم «داعش» الإرهابي منهك القوى للغاية والذي يتطلع إلى التعافي بأي صورة من الصور. وحتى الآن، لا يزال هناك أكثر من 11 ألف سجين من سجناء «داعش» قيد الاحتجاز في مراكز مؤقتة في المناطق الخاضعة لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية، ويقيم نحو 15% منهم في المنطقة التي تستهدفها تركيا بالأعمال العسكرية الراهنة. وبالفعل، تمكن ما لا يقل عن 5 سجناء من عناصر «داعش» من الفرار من سجن «قوات سوريا الديمقراطية» بالقرب من القامشلي وسط قصف مدفعي تركي مزعوم.
لكن إلى جانب مسألة المعتقلين الجانبية، فإن احتمالات الفوضى والاضطرابات هي نفس البيئة التي يزدهر فيها تنظيم «داعش». ويعد الأمر من قبيل الانتصارات الاستراتيجية أيضاً بالنسبة إلى نظام بشار الأسد، وكذلك لروسيا وإيران، اللتين ستستفيدان من الفوضى والاضطرابات والإنهاك الحتمي لكلٍّ من تركيا وقوات سوريا الديمقراطية، اللتين ستضطران عند مرحلة من المراحل في المستقبل إلى الجلوس إلى مائدة المفاوضات بشأن الصفقات المزمع إبرامها مع النظام في دمشق.
وما يجعل الموقف الراهن شديد الإحباط حقيقة مفادها أن كبار المسؤولين في وزارتي الخارجية والدفاع قد بذلوا قدراً هائلاً من الطاقة والجهد خلال الشهور الماضية للتفاوض بشأن المستحيل: «الآلية الأمنية» التي تهدف إلى تلبية المتطلبات والمصالح الأميركية والتركية ولدى قوات سوريا الديمقراطية. ولقد تمت الموافقة على هذه الآلية في أغسطس (آب) الماضي، وكانت قيد العمل. وكان مصدر القلق الرئيسي لدى الجانب التركي، ونعني «وحدات حماية الشعب» الكردية، قد انسحبت من الشريط الحدودي مع تدميرها لمواقعها الدفاعية هناك أيضاً. وتقاسم الجنرالات الأميركيون والأتراك طلعات المروحيات العسكرية في دوريات جوية فوق المناطق الحدودية للمرة الأولى منذ سنوات، وكانت المقاتلات التركية تحلق بصورة مستقلة في أجواء شمال شرقي سوريا في دوريات أمنية كذلك. وكانت الآلية الأمنية أبعد ما تكون عن المثالية وكانت تواجه العديد من التحديات، غير أنها كانت أفضل بكثير من الفوضى التي نرقبها في الآونة الراهنة.
وبقدر ما تحاول وزارة الدفاع الأميركية الادّعاء أننا لم نتخلَّ عن الأكراد، فهذا بالضبط هو ما سأشعر به إن كنت قائداً في «قوات سوريا الديمقراطية» التي تواجه الآن المقاتلات، والمروحيات، والمدفعية، والرشاشات لدى ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي (ناتو) بينما لا أواجه كل ذلك إلا بالبنادق الهجومية روسية الطراز. ولم يعلن الرئيس ترمب ولا أي جهة أخرى من الحكومة الأميركية الانسحاب العسكري الرسمي من سوريا، غير أن القرارات الأخيرة وما تحمله من تداعيات لازمة تجعل من تلك النتيجة أمراً لا محيد عنه. ومن المحال تصور كيف يمكن للعلاقة الفعالة مع «قوات سوريا الديمقراطية» أن تستمر بعدما فتحت القوات الأميركية الباب حرفياً أمام قوات العدو اللدود التركي، في حين أن «قوات سوريا الديمقراطية» ليست متأهبة لمثل هذا القتال حالياً.
وكان القرار بعد الترهيب التركي من بواعث الإحباط لما يعود به من أضرار على استراتيجية تبادل المنافع التي حققت في سوريا نجاحاً كبيراً بأقل التكاليف الممكنة. ومع وجود نحو 2000 إلى 2500 جندي في ذروة المواجهة، تمكنت الحملة الأميركية لمكافحة «داعش» من تدريب وتجهيز قرابة 100 ألف من رجال الميليشيات، لقيادة الحملة المنتصرة في خاتمة المطاف والتي تمكنت من هزيمة «داعش» داخل أراضيه. وفي وقت كان الساسة الأميركيون والأوروبيون والمواطنون العاديون يعارضون بالإجماع تقريباً أيّ أنشطة أو ارتباطات عسكرية أميركية في الخارج – لا سيما في منطقة الشرق الأوسط – بدا أن تحقيق هذا النجاح منخفض التكاليف من الحلول التي لا تقدَّر بثمن.
وفي حين أن الرئيس ترمب تعرض للانتقادات الحزبية القاسية في بلاده وفي أوروبا، فإن الكثير من اللوم تتحمله إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما كذلك، والتي تخيرت الشراكة مع العدو الأول لأحد أعضاء حلف «ناتو» منذ أربعة عقود، حتى وإن كان حليفاً مثيراً للإزعاج. وأثار هذا القرار في حد ذاته مشكلات كبيرة، لكنّ الرفض المستمر من إدارة أوباما للاعتراف بجدية المخاوف التركية مع تخصيص قدر كبير من طاقة التفاوض بشأن الترتيبات الأمنية ذات المنافع المتبادلة يعني أن المشكلات كانت حتمية الحدوث. وكانت «الآلية الأمنية» التي جرى التفاوض بشأنها مؤخراً تحت إشراف المبعوث الأميركي الخاص جيمس جيفري، ينبغي أخذها في الاعتبار منذ سنوات مضت. وكلما نظرنا في المخاوف الأمنية التركية من «وحدات حماية الشعب» الكردية، فإن رفض هذه المخاوف بالكلية لن يكون له أي معنى من الناحية الاستراتيجية.
وحتى الآن، من المحتمل للولايات المتحدة إعادة تعزيز مواقعها في المناطق الداخلية من شمال شرقي سوريا، مع التركيز على مواجهة تهديدات «داعش» وتأمين نهر الفرات من أي هجمات محتملة. ولكن بغية المحافظة على ذلك، فلا بد من بذل الجهود الدبلوماسية الجادة لإبقاء «قوات سوريا الديمقراطية» في الصورة ومنعها من البحث عن حلفاء آخرين. وفي غضون الأثناء ذاتها، لا يزال من غير المحتمل مشاركة نظام الأسد بجدية في محادثات ذات مغزى مع «قوات سوريا الديمقراطية»، لكن من شبه المؤكد أن روسيا ستكون مسرورة للغاية بخروج «قوات سوريا الديمقراطية» من المدار الأميركي. وخلال مفاوضات الآلية الأمنية في وقت سابق من العام الجاري، اعتاد المسؤولون الأميركيون توصيف «قوات سوريا الديمقراطية» بأنهم «لم يكونوا أكثر ضعفاً مما هم عليه الآن». ولقد تغيّر ذلك التصور بصورة كبيرة خلال الأيام الأخيرة، وما إذا كان الضعف المتزايد يصبّ في صالح السياسة الأميركية من عدمه، هو أمر لم يتضح تماماً بعد.
وإلى جانب التفاصيل المتعلقة بسوريا، فإن التطورات الأخيرة الناجمة عن مواقف واشنطن، توضح حجم وتداعيات الأزمة في الحكومة الأميركية. إذ أفضت قرارات الرئيس ترمب التي يتخذها بصورة منفردة من دون مشاورة المستشارين والخبراء في الحكومة، إلى إلحاق الأضرار الكبيرة بسمعة ومكانة الولايات المتحدة حول العالم، ولدى حلفائها على وجه الخصوص. ويخبرني المسؤولون الأوروبيون على نحو متواصل بأنهم لم يعودوا يثقون بإدارة الرئيس ترمب بالدرجة الكافية للدخول في أي ترتيبات ذات مغزى مع الحكومة الأميركية. كما أسفرت التطورات الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط – لا سيما ذات الصلة بإيران – عن تعميق حالة انعدام الثقة الراهنة. وينبغي توخي المزيد من الحذر بشأن الاعتماد الكبير على إدارة الرئيس ترمب، سيما إن أفضى تفكك سياساتها إزاء سوريا، والتخلي عن الحلفاء السوريين من الأمور التي لا بد من اعتبارها والتعامل مها.
- خاص بـ«الشرق الأوسط»