د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

الطريق نحو فزان والجنوب الليبي

لعل من قرأ مذكرات سفاح ليبيا رودولفو غراتسياني، قائد القوات الإيطالية في أفريقيا، قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية، وأحد مجرمي الحرب المسؤولين عن مصرع آلاف من الإثيوبيين والليبيين المدنيين؛ المذكرات التي كتبها بنفسه تحت عنواني «نحو فزان» و«برقة المهدأة» سيعرف أهمية الجنوب الليبي، شرقاً وغرباً، الذي دفع جنرالاً مثل غراتسياني إلى المغامرة بجيش حديث، ويُنزل الدبابة لأول مرة في الصحراء، فالجنوب الليبي الغني بالثروات يعتبر منجماً خصباً لم يستثمر بعد، دفع بالعديد من الأطراف، المحلية والدولية، إلى التدخل فيه قديماً لبسط النفوذ والسيطرة، كمغامرة غراتسياني التي انتهت بالفشل عندما واجه رجالاً أشداء لا يثني عزائمهم لهيب الصحراء الحارقة، من أمثال المجاهد سليمان بومطاري، الذي طلب غراتسياني أن يأتوه برأسه، كعادته في جمع الرؤوس؛ عادة سبق فيها «داعش». كما واجه جيش غراتسياني الشيخ سيف النصر الذي وصفه غراتسياني بأنه «كان دائم الثورة والتمرد على كل حكومة إيطالية»، حتى احترق جيش غراتسياني وولى أدباره تائهاً في الصحراء الليبية.
فالجنوب الليبي، عقب إسقاط الدولة، حاولت جماعات وعصابات، بل ودول، تسهيل نهب الثروات، من ذهب ويورانيوم وفوسفات ونفط، واستخدام الجنوب منطلقاً للهجرة غير القانونية، بل ومأوى للمتمردين من دول الجوار، ليتحولوا إلى جنود، حسب الطلب، عند «داعش» وأخواته، مستغلة في ذلك حالة الفراغ الحكومي والصراع المشتعل في الشمال...
الجنوب الليبي، الذي يعاني من انعدام الأمن وصعوبة العيش منذ زمن، والغارق في حالة إظلام تام لانعدام الكهرباء ومصادر الطاقة كالبنزين، رغم أنه القابع فوق بحيرة النفط والماء، وانعدام الخدمات الصحية، نظراً لفرار الأطقم الطبية الأجنبية، التي كانت عرضة للخطف والابتزاز من العصابات واللصوص.
الجنوب الليبي في الحقيقة، ورغم الظروف الخارجية التي فرضت عليه، إلا أن واقعه يعاني نزاعاً قبلياً متجدداً، ومتعدد الأسباب والدوافع، يعبر عن إرث هائل من الفوضى وغياب الدولة والفراغ، ما جعله في حالة صراع دائم بين قبائل التبو والطوارق والعرب، التي في أغلبها صراعات سياسية، وليست قبلية، يتم الاحتكام فيها إلى السلاح لتحقيق المغالبة والاستقواء بالمناصرين، ولو كانوا من خارج الحدود، نظراً لأن أغلب السكان المحليين من قبائل التبو والطوارق، لهم امتدادات قبلية في دول الجوار مثل تشاد والنيجر.
الجنوب الليبي معبر الهجرة غير القانونية، بسبب صعوبة مراقبة الحدود الممتدة لآلاف الكيلومترات في أعماق الصحراء، التي تتشارك فيها ليبيا مع أربع دول، بعضها لا يشارك ولا يبذل أي مجهود في كبح حدوده، بل هناك من يتساهل مع المهربين، مثل السودان زمن البشير، بدخول عناصر «داعش» الهاربة من سوريا والعراق، عبر السودان، بتمويل قطري، إلى الجنوب الليبي.
الجنوب الليبي، الذي يعاني في الأصل من صراعات قبلية تسببت فيها الولاءات السياسية، التي لعبت دوراً كبيراً في تعميق وتفكيك النسيج الاجتماعي بين السكان، وأذكت النعرات القبلية والإثنية، الأمر الذي يحاول النظام القطري استغلاله، للعبث بالنسيج الديموغرافي الليبي، فسعى النظام القطري إلى العبث في التركيبة السكانية لزعزعة الأمن الديموغرافي، وضرب السلم المجتمعي، حيث عمل النظام القطري على إذكاء الاحتراب والتخندق الإثني من خلال تصدير الفوضى وضخ الأموال والسلاح لتغذية الصراع القبلي المفتعل، خصوصاً بعد الصراع الأخير في بلدة مرزق بالجنوب، حيث عبرت البعثة الأممية في ليبيا عن قلقها إزاء «استمرار أعمال العنف بين المجتمعات المحلية في مرزق».
أزمة الجنوب تعتبر مفتاح الحل في الشمال، لكون الفوضى فيه سيكون لها تأثير على الشمال الليبي والجنوب الأوروبي، خصوصاً بعد أن حذر المبعوث الأممي غسان سلامة، من أن ثمة عناصر من المرتزقة الأجانب توجد في ليبيا، لذلك يعتبر التحرك العسكري لسحقها خطوة مهمة لتحقيق الاستقرار وإعادة سلطة الدولة على الجنوب المستباح.