هاشــم صالــح
كاتب وباحث ومترجم سوري، يهتم بقضايا التجديد الدّيني ونقد الأصولية ويناقش قضايا الحداثة وما بعدها.
TT

مع فولتير

هل تريد أن تضحك وتشبع من الضحك؟ هل تريد أن ترفه عن نفسك من حالة ضجر وسأم من الوجود؟ لا داعي للذهاب إلى الكوميديا الفرنسية لمشاهدة مسرحيات موليير، ولا حتى إلى السينما لمشاهدة أفلام لويس دوفونيس أو دريد لحام أو عادل إمام، أو الكوميدي الإنجليزي الشهير باسم «مستر بِن».. وإنما يكفي أن تفتح كتابا لفولتير. إنه يستطيع أن يسخر حتى من نفسه! إنه يستخدم سلاحا فتاكا وفعالا ضد خصومه هو: التهكم والاستهزاء. إنه بارع في ذلك كل البراعة. كيف يمكن أن تمل في حضرة مفكر من هذا النوع؟ كان يشتبك دائما مع شخص شرس يدعى «فريرون» وكان من ألد أعدائه، فقال عنه: «يوما ما، عض الثعبان فريرون. هل تعلمون ماذا حصل؟ مات الثعبان!». أعتقد أن الكتّاب الجادين العبوسين يملون القراء. هذا لا يعني أنهم ليسوا محترمين أو مهمين. مثلا كانط، من يستطيع أن يشكك في أهميته؟ ولكنه لا يضحكك إطلاقا، على العكس قد يهلكك حتى تفهم ما يقول. لا تستطيع أن تتوصل إلى جواهره إلا بعد أن تزهق روحك. وقل الأمر ذاته عن هيغل أو حتى هابرماس في وقتنا الحاضر. فولتير بينما يضحكك يثقفك ويعلمك ويوسع آفاقك. إنه يضرب عصفورين بحجر. ماذا تريدون أكثر من ذلك؟ إنه كاتب فنان، وليس فقط مفكرا جافا أو ناشفا. وقل الأمر ذاته عن الجاحظ. أخيرا، فتحت كتاب «البخلاء»، فلم أعد أستطيع تركه حتى نهاياته تقريبا. وقد وضعته تحت المخدة لكي {أتبرك} به وأعرف معنى البخل وعظمة البخلاء.
عندما تفتح كتاب فولتير المشهور باسم «القاموس الفلسفي»، تجد العجب العجاب. عادة، كلمة (قاموس) ترهبك وترعبك ولا يمكن أن تجد فيها أي تسلية أو متعة. من يطالع قاموسا؟ من يستطيع أن يهضم هذه الوجبة الثقيلة التي قد تصيبك بعسر في الهضم أو قرحة في المعدة؟ ولكن، ليس عند فولتير. إنه يقدم لك أصعب الأفكار على طبق من ذهب. وهكذا، تتعرفون على بساتين الأنوار من خلال المواد المتتالية التي تستعرض تاريخ الدين المسيحي من أوله إلى آخره بطريقة تاريخية فلسفية لا تبجيلية موروثة مملة على طريقة التقليديين. على هذا النحو، أضاء فولتير عقول الفرنسيين واشتبك مع أقطاب الأصوليين الأشداء في معركة ضارية. ولكن، لا تعتقدوا أن المسألة كانت مزحة. فعليها كانت تقطع الرقاب. ولذلك، نشر القاموس من دون اسم المؤلف. بل وحتى دار النشر كانت مزورة. فقد وضعوا عليه أنه مطبوع في لندن، في حين أنه كان قد نشر سريا في مطبعة بجنيف. ولكن كل هذه الاحتياطات لم تكن كافية.
هل تعلمون ماذا كان يفعل بعد أن ينشر كتبه الأكثر خطورة على الأصولية والأصوليين؟ ومعلوم أنهم كانوا يرعبون البشر آنذاك كما هو حاصل عندنا الآن. كان يحلف بأغلظ الأيمان أنها ليست له ولم يسمع بها من قبل قط. وربما صعّد لهجته أكثر وقال: «من هذا الحقير الذي ألف هذا الكتاب الذي يهاجم ديننا ومقدساتنا؟! لعنه الله. ما هذا الكتاب الشيطاني الجهنمي المعادي للمسيحية؟! من هذا الحقير الذي يتفوه بمثل هذا الكلام البذيء؟! أعوذ بالله، ما هذا القاموس التافه الشنيع؟!»... إلخ.. أترجم بتصرف، ولكن هذا هو مضمون كلامه. بالطبع، أصدقاؤه الخلص أو المطلعون على بواطن الأمور كانوا يضحكون في سرهم، وربما يقهقهون عاليا، لأنهم يعرفون الحقيقة. بل وحتى المثقف العادي كان يعرف من صاحب الكتاب، لأن أسلوبه يفضحه. والحال أنه بعد أن نشر «القاموس الفلسفي» أحس فجأة بالرعب من هول ما فعل. وعرف أنه «زادها شوية»، كما يقال. الكتاب حرق في أربع عواصم دفعة واحدة: باريس وجنيف وبيرن ولاهاي. ولذلك، هاجمه بعنف غير مسبوق كما ذكرنا آنفا لكي يحمي نفسه. باختصار: كان الرجل عاجزا عن تحمل مسؤولية ما يكتب بكل بساطة، لأن ما يكتبه كان سابقا لأوانه بكثير. ولهذا السبب، كان يركز على الفكرة التالية كثيرا: وهي أن الأجيال القادمة هي التي ستحصد الثمار، وليس نحن. نحن نزرع ونتعب ونشقى ونخاطر بأنفسنا من دون أن نرى بأم أعيننا أي نتيجة. ولا ينبغي أن نتأفف أو نتذمر. على العكس، ينبغي أن نفرح لأننا نمهد الطريق لأبنائنا أو أحفادنا ونساعد على انتشالهم من جحيم التعصب والتزمت الديني. وهذا ما تحقق بالفعل لاحقا في كل المجتمعات الحضارية المتطورة. فجهود فولتير لم تذهب سدى. لهذا السبب، أستغرب كثيرا موقف بعض المثقفين العرب المستعجلين الذين يريدون الوصول إلى أي نتيجة بأسرع وقت! مستحيل. نحن لن نرى نهاية النفق أيها السادة. هذا شيء مؤكد. بل وبعضنا يعتقد أن المشاكل الضخمة المندلعة حاليا قابلة للحل في المدى المنظور. بل وبعضنا ينكر وجود المشكلة من أساسها، لأنه غير قادر على مواجهتها. لحسن الحظ، فإني وقعت أخيرا على كلام لجمال خاشقجي أثلج صدري. وفيه يقول بأن الفكر المتطرف يمثل مشكلة أعمق مما نتصور وينبغي أن نواجهها بكل شجاعة وصراحة، لا أن نغض الطرف عنها أو نجاملها. وهذه في رأيي أكبر جريمة يمكن أن يرتكبها المثقف: طمس الحقيقة أو تزويرها أو حتى عكسها ضد ذاتها.. للحق والإنصاف، فإن مشاري الذايدي كان قد أوضح ذلك مرارا وتكرارا على صفحات هذه الجريدة بالذات. وهذا ما تفعله سوسن الأبطح أيضا وآخرون كثيرون هنا أو هناك. ومن هنا، فالمثقفون العرب أو بعضهم على الأقل منتبهون إلى خطورة الموضوع. ولكن المشكلة هي أن معظم الحركيين السياسيين، وليس كلهم، يزوِّرون الحقيقة ولا يعترفون بأن الشعب قد يعاني مشكلة فعلية وأنه بحاجة إلى تثقيف وتنوير. ومن ثم، فالمشكلة لن تحل سياسيا قبل أن تتجدد برامج التعليم أو تتغير كليا على مدار العالم الإسلامي كله، وليس فقط العربي. هناك حاضنة اجتماعية ضخمة للفكر الإرهابي الظلامي. وهي التي ينبغي أن نحاول تنويرها كما فعل فولتير في عصره. كل ما عدا ذلك ثرثرات وأقاويل.