جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

سِفر الخروج البريطاني... وانتظار غودو

أسَفارٌ عديدة خالدة عرفتها البشرية، عبر مراحل وحقب تاريخية مختلفة، وطويلة، مرّ خلالها العالم بتطورات دينية وسياسية واقتصادية وثقافية وتقنية، وشهد حروباً مهلكة وكوارث طبيعية لا تُنسى. وها نحن المحظوظين، في القرن الأول، من الألفية الثالثة، نشهد وقائع تدوين سِفر آخر، جديد، لا يتصف بقداسة، ولا يدّعيها، ألا وهو سِفر الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي.
خلال مدة ثلاث سنوات، بدأت من 23 يونيو (حزيران) 2016، وهو تاريخ بداية تدوين الفصل الأخير من هذا السِّفر الاستثنائي، وحتى يوم الناس هذا، ونحن في انتظار سماع إعلان تسري به أمواج الأثير مبشّراً، أخيراً، بالانتهاء منه، كأننا «في انتظار غودو».
خلال هذه السنوات الثلاث الأخيرة، شهد العالم تغييرات سياسية خطيرة، انعطفت بالتاريخ البشري إلى منعطف قد يقود إلى طريق سعى العالم، مجتمعاً، إلى تفاديها طيلة نصف قرن أو يزيد من الزمان، ونعني بذلك وصول المرشح دونالد ترمب إلى المكتب البيضاوي، في البيت الأبيض بواشنطن، معلناً بداية حقبة جديدة ومثيرة في صناعة القرار السياسي الأميركي، وما لذلك من تأثيرات، سلباً وإيجاباً، على شعوب العالم، وما يلم به من أحداث. وها نحن نعيش لنرى الرئيس ترمب وفريقه يهيئون أنفسهم استعداداً للترشح لأربع سنوات أخرى.
في القارة العجوز، أوروبا، تابعنا، وأيادينا على قلوبنا، خشيةً ورهبةً، بروز حركات شعبوية، ووصولها عبر صناديق الانتخاب إلى السلطة في إيطاليا والمجر، وغيرهما من دول القارة، وأخيراً، وصولها إلى مقاعد البرلمان في إسبانيا. وتابعنا كذلك في أميركا الجنوبية، عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وصول بولسونارو إلى كرسي الحكم في البرازيل، وفي أفريقيا بداية ونهاية الصراع الدامي في جنوب السودان، وسقط، أخيراً، غير مأسوف عليه، نظام عمر البشير في الخرطوم، وقبله كانت نهاية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وبطانته في الجزائر، ودخل الصراع الدامي على السلطة في ليبيا مرحلة نوعية خطيرة، زادت في تعقيده، محلياً وإقليمياً ودولياً، واندحر «داعش» عسكرياً في العراق وسوريا وليبيا، وفشل انقلاب عسكري في تركيا، أدى إلى تغيير الدستور بشكل أعطى للرئيس إردوغان الفرصة ليصبح ديكتاتوراً، واعتراف واشنطن بالقدس عاصمةً لدولة إسرائيل، وتهجير وقتل المسلمين في بورما... إلخ.
على المستوى الاقتصادي، شهد العالم الكثير من التطورات التي لا تقل أهمية وخطورة في آن معاً، لعل آخرها وأخطرها، حرب التعريفة الجمركية بين الولايات المتحدة والصين، وقرارات الرئيس ترمب بخروج بلاده من العديد من الاتفاقيات التجارية الدولية.
في مجال النشاط البشري للاستكشاف العلمي تابعنا وصول المركبة الفضائية الصينية وهي تحطّ على سطح الجانب المظلم للقمر، لأول مرّة في التاريخ، وارتفاع حدة المنافسة دولياً على الفضاء الخارجي، ونجاح علماء الفضاء الأميركان في إنزال مركبة على سطح المريخ، وآخر الاكتشافات العلمية كانت، في الآونة الأخيرة، على يد المستكشف الأميركي فيكتور فيسكوفو، في الوصول إلى ما يطلق عليه اسم «ماريانا ترينش Mariana Trench» على عمق 11 كيلومتراً تقريباً في المحيط، في خطوة بمثابة قفزة بشرية في استكشاف أعماق محيطات، تستحوذ على أكثر مساحات الأرض، وما زلنا نجهلها.
في الرياضة، وبالذات في كرة القدم، تابعنا على شاشات التلفاز، مؤخراً، وبإثارة، فريق برشلونة بكل نجومه وتاريخه وأبطاله، يمرّغ في أرض «ملعب أنفيلد» ليفربول، في مباراة لن ينساها عشاق المستديرة أينما وُجدوا. ولأول مرة، سيشهد عالم المستديرة في تاريخه أربعة فرق إنجليزية، تتنافس على نهائي أبطال أوروبا، وكأس أوروبا.
وما زال هناك الكثير جداً مما تحقق وأُنجز في مختلف القطاعات والنشاطات البشرية مما لا تسعفنا الذاكرة بتذكره ولا تتيح لنا هذه السطور فرصة ذكره والتنويه به، ومع ذلك، لم يتمكن، حتى الآن، 650 نائباً في البرلمان البريطاني، من الوصول إلى توافق يفضي إلى اتفاق يتيح لهم تدوين فصل أخير متبقٍّ من سِفر خروجهم من بروكسل، مغادرين بلا رجعة الاتحاد الأوروبي من أضيق أبوابه ليضعوا خاتمة لمسيرة طويلة من علاقة دخلوها منقسمين وسيخرجون منها أكثر انقساماً سياسياً واجتماعياً، وليجدوا أنفسهم واقفين في مفترق طرق من دون علامات ولا مرشدين ولا خرائط ولا بوصلة تقودهم إلى عالم قالوا إنهم تركوا أوروبا ليلتحقوا به.
واستناداً إلى آخر تقارير إعلامية، ما زال سِفر الخروج البريطاني قيد التدوين بعد قرابة 300 جلسة برلمانية، أي 2657 ساعة و56 دقيقة، بدأت من 17 يونيو 2017، وتعد الأطول منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1653. ولسوء الحظ، فإنه لن يحمل قداسة ولن يكون ببلاغة وفصاحة بيان أو بعمق وتأثير معنى ما سبقه من أسفار، وإنْ اقتضى تدوينه زمناً أطول وصفحات أكثر عدداً وتفاصيل لن تكون ممتعة أو مريحة لمن سيأتي من أجيال قراءتها، دعْ عنك الفخر بها.