جستن فوكس
TT

الدول المزدهرة والتدفق البشري

نشرت مؤسسة «ميرسر» الاستشارية العالمية المعنية بمجال الموارد البشرية، مؤخراً، قائمتها السنوية الـ21 حول «مستوى جودة المعيشة»، والتي ترتب المدن بمختلف أرجاء العالم بناءً على الظروف الاقتصادية والإسكان والرعاية الصحية والخدمات العامة والسلامة والبيئة الطبيعية وعدد من الاعتبارات الأخرى.
وللسنة العاشرة على التوالي، تأتي فيينا في المقدمة، تليها كل من زيوريخ وفانكوفر وميونيخ وأوكلاند ودوسلدورف وفرانكفورت وكوبنهاغن وجنيف وبازل في المراتب الـ10 الأولى. أما المدينة الأميركية الأولى بالقائمة فهي سان فرانسيسكو وتأتي في المرتبة الـ34. أما لندن، أولى مدن المملكة المتحدة، فتأتي في المرتبة الـ41 ، ومعها ميلانو، أول مدينة إيطالية. وجاءت باريس في المرتبة الـ39. ونيويورك في الـ44 وطوكيو في الـ49 وبكين في الـ120 وبغداد في الـ231 وهو المركز الأخير.
وعندما نشرت بعض هذه النتائج عبر «تويتر»، أثارت نقاشات مرحة من أشخاص صدموا إزاء المرتبة المتقدمة للغاية التي حصلت عليها أوتاوا (19) أو المرتبة المتأخرة للغاية التي حصلت عليها سيول (77) أو إزاء أن الكثير للغاية من المدن القريبة من قمة القائمة تبدو مملة للغاية.
كما حصلت على بعض الردود، بدأت برد تلقيته من عالم الاقتصاد لدى معهد هوفر، راسل روبرتس، الذي تساءل: «إذا كان مستوى جودة الحياة بهذه الرداءة البالغة في المدن الأميركية، فلماذا تستمر أعداد كبيرة للغاية من الأشخاص من شتى أرجاء العالم في محاولاتهم الانتقال إليها»؟
سؤال وجيه! ويكمن جزء من الإجابة ببساطة في أن قائمة ترتيب «مستوى جودة المعيشة» الصادرة عن «ميرسر» موجودة لمعاونة الشركات العميلة على اتخاذ قرارات تتنوع بين «أين يمكن افتتاح مكاتب وصولاً إلى كيفية توزيع وتسكين ومكافأة قوى العمل العالمية التابعة لهذه الشركات»، حسبما أوضح إليا بونك، رئيس شؤون الوظائف بالمؤسسة، وذلك من خلال بيان صحافي أصدره مع قائمة هذا العام. ويعني ذلك أن القائمة تقيس أين يمكن للمديرين والمهنيين البارعين ممن لهم أسر ويحصلون على رواتب جيدة ومكافآت مجزية، ممن انتقلوا للعمل في مدينة جديدة في إطار شركة متعددة الجنسيات، أن يجدوا الانتقال أسهل وأفضل ما يكون. والمؤكد أن غالبية المهاجرين إلى الولايات المتحدة (أو أي مكان آخر) لا ينتمون إلى هذه الفئة!
بيد أن فكرة أن أشخاصاً من مختلف أرجاء العالم يتوقون شوقاً للانتقال إلى الولايات المتحدة وليس أي من الدول الغنية الأخرى، خاطئة في جوهرها. في الواقع، جميع الدول فيما عدا ثلاثاً ممن وردت مدن بها في مراتب أعلى من سان فرانسيسكو في قائمة «ميرسر» تتسم بنسب أعلى من المقيمين المولودين بدول أجنبية عن الولايات المتحدة.
من ناحية أخرى، فإن لكسمبورغ صغيرة للغاية (عدد السكان 602.005) لدرجة أنه يبدو من السخف بعض الشيء تضمينها هنا، بجانب أن غالبية الدول الأخرى أصغر كثيراً عن الولايات المتحدة والتي تضم عدداً أكبر بكثير من المقيمين المولودين في دول أجنبية، وما تزال الدولة الأولى الجاذبة للمهاجرين الجدد. إلا أن الأرقام تكشف أن أستراليا وكندا وألمانيا والمملكة المتحدة، والتي يبلغ مجمل عدد سكانها ثلثي سكان الولايات المتحدة، استقبلت معاً عدداً من المهاجرين يزيدون بنسبة 23 في المائة عما استقبلته الولايات المتحدة خلال الفترة بين عامي 2010 و2016.
وتجب الإشارة هنا إلى أن هؤلاء المهاجرين لا يتضمنون عشرات الأميركيين الذين تطلعوا نحو التمتع بمستوى جودة أعلى في المعيشة من خلال الانتقال إلى أوروبا أو كندا. ومثلما أشار عالم الاقتصاد إيلي دورادو منذ أشهر قلائل، فإن السويد تضم عدداً ضئيلاً نسبياً من المقيمين المولودين في أميركا، لكن هناك أكثر من ضعفهم يقيمون داخل الولايات المتحدة ومن مواليد السويد. وتنطبق حقائق مشابهة على جميع الدول الواردة في القائمة.
من ناحية أخرى، هناك العديد من الأسباب التي تفسر السبب وراء أن هذه التباينات، لا تعني بالضرورة أن قائمة ترتيب مستوى جودة المعيشة خاطئة، أو أن الديمقراطية الاجتماعية في السويد محض أوهام، منها أن الأميركيين الذين سيستفيدون بالقدر الأعلى من الديمقراطية الاجتماعية بالسويد هم الفقراء الذين ليس باستطاعتهم، بوجه عام، تحمل تكاليف السفر إلى أوروبا، ويواجهون صعوبة في الحصول على تراخيص للبقاء هناك.
في المقابل، نجد أن الأوروبيين بإمكانهم جني الاستفادة الكبرى من الضرائب المنخفضة، والدخول الأعلى التي تميل الولايات المتحدة لتوفيرها للفئات ذات المستوى التعليمي الجيد، التي تتمكن من القدوم إلى هنا وغالباً ما يسمح لها بالإقامة.
علاوة على ذلك، فإن غالبية المقيمين داخل أميركا من المولودين في أوروبا كانوا هنا منذ فترة: 65 في المائة منهم جاءوا إلى أميركا قبل عام 2000، و36.7 في المائة ممن جاءوا من شمال أوروبا وغربها كانوا في الـ65 أو أكثر عام 2017، مقارنة بـ14.9 في المائة من مجمل سكان الولايات المتحدة. وأخيراً، فإن أبناء السويد بمقدورهم الحديث بالإنجليزية، بينما قليل للغاية من الأميركيين بإمكانهم التحدث بالسويدية.
وتمثل اللغة عاملاً جوهرياً، فمنذ الحرب العالمية الثانية شكلت الولايات المتحدة القوة الثقافية والاقتصادية والعسكرية والسياسية والعلمية والتكنولوجية المحورية على مستوى الكوكب. وبالنسبة للكثيرين ممن ولدوا في أسر ميسورة في دول أخرى من العالم ويعيشون الآن في الولايات المتحدة، كان هذا السبب الرئيسي وراء قدومهم إلى هنا: إنها محور العالم. ولم يكن أمام المواطنين الأميركيين أسباب تذكر تدعوهم للهجرة، وأبدى مواطنو الولايات المتحدة اهتماماً أقل بالعالم الخارجي عما أبداه العالم الخارجي تجاههم.
أما اليوم، يبتعد محور العالم تدريجياً عن الولايات المتحدة. وإذا أخذنا في الاعتبار القوة الشرائية، سنجد أن الصين أصبحت الاقتصاد الأكبر، في الوقت الذي تمكنت فيه جامعات بدول أخرى من كسر هيمنة الجامعات والمعاهد البحثية الأميركية. في الوقت ذاته، عكف الرئيس الأميركي دونالد ترمب بدأب على تقليص الدور السياسي لبلاده. وبذلك قلت جاذبية الولايات المتحدة أمام العالم وأصبحت عوامل أخرى مثل مستوى جودة الحياة تلعب دوراً أكبر في تحديد ما إذا كان الأشخاص سيأتون إلى هنا.
ومع ذلك، فإنه بالنسبة للراغبين في البقاء، تملك الولايات المتحدة سجلاً جيداً في دمج المهاجرين داخل المجتمع وقوة العمل، الأمر الذي لا ينطبق على بعض الدول الأوروبية. ولذلك، ستستمر الرغبة تراود الكثيرين في القدوم إلى الولايات المتحدة، وإن كان ذلك لا يعني أنه ينبغي لنا تجاهل نذر الخطر التي يكشفها الخبراء.
جدير بالذكر أن المملكة العربية السعودية هي ثاني دولة عالمياً بعد الولايات المتحدة من حيث عدد المقيمين المولودين في دول أجنبية، ذلك أنه بلغ عددهم 12.2 مليون نسمة عام 2017 تبعاً للأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة، مقارنة بـ49.8 مليون نسمة داخل الولايات المتحدة.
- بالاتفاق مع «بلومبرغ»