روبرت فورد
السفير الأميركي السابق لدى سوريا والجزائر والباحث في معهد الشرق الأوسط في واشنطن
TT

قرارات صعبة في الجزائر بعد تأجيل الانتخابات

حقق المتظاهرون الجزائريون انتصاراً كبيراً عندما غيَّر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة قراره في 11 الجاري بإعلانه عن عدم الترشح لولاية خامسة في انتخابات 18 أبريل (نيسان) المقبل. وحاول الرئيس بوتفليقة طمأنة الشارع الجزائري بأنه قد تلقى رسالتهم، وأمر بتأجيل الانتخابات الرئاسية إلى موعد غير محدد بعد.
قضيت خمس سنوات من حياتي المهنية أعمل في الجزائر خلال بعض أسوأ فترات الصراع الداخلي هناك، ثم لسنوات أخرى بعدما عمّ السلام والاستقرار أرجاء البلاد. والجزائر بلد يضم مزيج مكونات، وهي الدولة المطلة على البحر المتوسط التي تتقاسم تاريخها العريق مع منطقة الشرق الأوسط ومع أوروبا. ويمكن للمرء الاستماع إلى ذلك المزيج من الثقافات المتعددة في اللهجة العربية المنطوقة هناك. وهي اللغة العربية من دون شك، غير أنها ذات لكنات بربرية، وتركية، وفرنسية، وإسبانية، وبعض الكلمات الإنجليزية أيضاً.
ويرغب الشباب الجزائري المتظاهر عبر شوارع البلاد في حياة أفضل. وهناك في كل عام تقع مأساة لشاب من الشباب الجزائري – مثالاً بالحراقة (وهي لفظة عربية تعني حرق بطاقة الهوية الوطنية قبل الرحيل عن البلاد تماماً كما صنع الشاب الجزائري إبراهيم الذي لقي حتفه غرقاً في مياه المتوسط محاولاً الوصول إلى أوروبا بحثاً عن لقمة العيش وفرصة العمل الكريمة). ويسهل الإعجاب بهؤلاء الشباب الذين انطلقوا في الشوارع في مظاهرات سلمية بمئات الآلاف إن لم تكن بالملايين في أعقاب صلاة الجمعة الثالثة الماضية. وبعضهم كان يحمل لافتات تقول: «الجزائر ليست سوريا». ولقد تجنبوا تماماً الاشتباك مع قوات الأمن الوطنية، وبعض الطلاب الجزائريين منحوا عناصر الشرطة الوطنية زهوراً وصافحوهم في مودة واضحة. وعلى العكس تماماً من سوريا، تحلَّت قوات الأمن الجزائرية بأعلى درجات ضبط النفس والحذر. وفي بعض المدن عمد المتظاهرون إلى تنظيف الشوارع بعد انتهاء المظاهرات. وقالت الكاتبة الجزائرية ياسمينة علوشة مؤخراً إن الجزائر ليست مجرد بلد آخر يشهد إحدى موجات «الربيع العربي»، بدلاً من ذلك، إنها البلد الذي يحمل خصائصه وسماته الخاصة.
ولكن ماذا بعد؟ هذا هو السؤال الكبير. لقد مدّد الرئيس بوتفليقة من فترته الرئاسية الرابعة إلى أجل غير مسمى. وتعهد بأن المؤتمر الوطني سينعقد قريباً لإعادة صياغة الدستور الجزائري، وتحديد موعد لإجراء الانتخابات الرئاسية. وقال الرئيس بوتفليقة إنه ينبغي (وليس يجب) على المؤتمر الوطني أن ينتهي من أعماله المكلف بها بحلول نهاية عام 2019 الجاري. كما قال إنه يرغب في البقاء في السلطة إنْ سمحت حالته الصحية بذلك حتى يتمكن من تسليم السلطة وتحية الرئيس الجزائري القادم. وليست هناك تفاصيل موضَّحة بشأن الشخصيات المشاركة في المؤتمر الوطني المزمع، أو من سيختار تلك الشخصيات المشاركة، أو الآلية التي يعتمدها المؤتمر الوطني في اتخاذ القرارات. وكل ما نعرفه أن الرئيس بوتفليقة، ونظامه الحاكم، قد كلّفا وزير الداخلية الجزائري بمهام رئيس وزراء البلاد، وأن هناك بالونات اختبار في وسائل الإعلام الرسمية تفيد بأن الدبلوماسي الجزائري المخضرم الأخضر الإبراهيمي سيترأس فعاليات المؤتمر الوطني الجزائري.
وحتى الآن، يرفض المتظاهرون تمديد فترة الولاية الرابعة، ويرفضون كذلك الحكومة التي يقودها رجل آخر من النظام كرئيس الوزراء الحالي. والأخضر الإبراهيمي من كبار المفاوضين السياسيين، وهو شخصية معروفة على الصعيد الدولي، ويحظى باتصالات ممتازة للغاية في باريس ونيويورك وموسكو. غير أن علاقاته بالشارع في مدن وهران، أو سطيف، أو باب الواد في العاصمة غير واضحة تماماً. وللحركة الاحتجاجية الجزائرية مشكلاتها الخاصة. وليس لها قائد معروف. وتفتقر أحزاب المعارضة الجزائرية، والمخترَقة تماماً من جانب الحكومة لعقود طويلة، إلى المصداقية لدى المتظاهرين، كما أن المعارضة لا تسيطر على الحركة الاحتجاجية في البلاد.
الفترة الحالية من الحراك السياسي في الجزائر لا تشبه أبداً فترة جبهة الإنقاذ الإسلامية المتطرفة لعام 1990 – 1991، وبالإضافة إلى ذلك، ترفض الحركة الاحتجاجية الولاية الخامسة للرئيس بوتفليقة، أو تمديد فترة الولاية الرابعة الحالية. ولكن ما الذي تريده تلك الحركة على وجه التحديد؟ إنها ترفض البرنامج الانتقالي للحكومة، فما الذي تريده عوضاً عنه؟ هل تريد الانتخابات الرئاسية النزيهة والرئيس الجديد مع بقاء المؤسسات الأخرى للحكومة دونما تغيير؟ أم هي تريد القطيعة الكاملة مع النظام القديم؟ بعبارة أخرى، ما نوع الجمهورية التي يريدها المتظاهرون الجزائريون تحديداً؟
يمكننا طرح نفس الأسئلة على الحكومة الجزائرية. فمن الواضح أن هناك وجهات نظر مختلفة داخل أروقة الحكومة بشأن قيادة البلاد في المستقبل. وكان تأجيل إجراء الانتخابات الرئاسية من القرارات التي يسهل على السلطات الجزائرية اتخاذها. بيد أن تحديد الحلول التوافقية مع الحركة الاحتجاجية الوطنية سيكون من القرارات العسيرة. وإن قُدر للمؤتمر الوطني البدء في أي وقت، فلن تكون المفاوضات سهلة وبسيطة حيث إن الأطراف كلها على غير استعداد للاتفاق حتى الآن بشأن شكل مستقبل الدولة الجزائرية.
وفي ظل هذا المناخ من عدم اليقين الواضح، فمن شأن المسيرات الاحتجاجية أن تستمر. وتأمل السلطات الجزائرية أن تقل تلك المسيرات والمظاهرات مع مرور الوقت. وهذا مجرد أمل وليس تحليلاً أو تقديراً للموقف الراهن. وأعرب رئيس الأركان الجزائري الجنرال قايد صالح، خلال الأسبوع الماضي عن تعاطفه الكبير مع المتظاهرين وأقر بحكمة الشعب الجزائري في تفادي الاشتباكات وأعمال العنف. وتكمن المخاطرة في أنه في كل مرة تحتل أعداد كبيرة من المتظاهرين شوارع البلاد، ويمكن أن تؤدي التوترات إلى تفجر أعمال العنف في الوقت الذي يعيش فيه الشعب الجزائري مناخاً مفعماً بالمشاعر الجياشة والعواطف المتقدة، وتزيد وتيرة القلق والترقب والتوتر مع مرور الوقت. ستكون هناك مظاهرات كبيرة مرة أخرى يوم الجمعة القادم 15 مارس (آذار). ولا نعرف حتى الآن في أي اتجاه سينطلق الشعب الجزائري.

- خاص بـ«الشرق الأوسط»