شذى الجبوري
صحافية عراقية عملت سنوات في بغداد ولندن والآن تغطي الشأن السوري
TT

هوياتنا.. والآخرون

شكت لي صديقة سورية، تقيم بلندن منذ بضعة أشهر فقط، من أنها ذهبت إلى حفل غنائي لمطرب عربي شهير أقامه بالعاصمة البريطانية أخيرا، وأنها بعد انتهاء الحفل ذهبت لالتقاط صورة معه. فسألها المطرب بشكل عابر من أي بلد هي؟ فأجابته: سوريا. عندها، أبدى اهتماما تجاهها وصب عليها سيلا من الأسئلة تمحورت حول المدينة التي تتحدر منها وأهلها وأين تقيم. لف ودار في استفساراته، التي بحسب صديقتي، لم يكن من هدف وراءها إلا أنه أراد أن يستشف إن كانت هي سنية أم علوية.
قالت لي باستياء: «ما له ومال طائفتي! جاء هنا ليغني فقط، لا ليستفسر عن هويات جمهوره».
ابتسمت لها ابتسامة العارفين وطمأنتها بأن هذا صار واقع الحال، ليس في بلاد العرب والمسلمين فحسب، بل حتى هنا في لندن، وربما في أي بقعة من العالم، وأن عليها أن تعتاد الأمر.
كم مرة استقللت سيارة أجرة يقودها سائق إنجليزي أو من أصل آسيوي أو أفريقي، فيبادرني بالسؤال التقليدي بعد أن ينطلق بسيارته بقليل، في إطار حب الفضول الذي يشتهر به أهل هذا البلد: «من أين أنت؟». فأجيب: «العراق». ثم أترقب بحذر السؤال الذي يليه دوما إلا وهو: «هل أنت سنية أم شيعية؟».
في كل مرة أكظم غيظي وأتحاشى الرد على سؤال السائق بسؤال آخر هو: «وما شأنك أنت؟». لكني أضبط نفسي وأتظاهر باللامبالاة وأجيب بأدب جم بأني عراقية، ولست مهتمة لا في الدين ولا في السياسة. فتظهر على السائق إمارات خيبة أمل، فيكتفي بإبداء رأيه في النزاع بالعراق بشكل عام وأسفه لما يحصل هناك. وعندما لا يحر جوابا شافيا مني يدله على طائفتي، ينقطع الحوار وتمضي الرحلة إلى نهايتها بصمت رهيب.
لا أدري كيف صارت هوياتنا فجأة محط اهتمام الآخرين؟ لا نعني لهم شيئا ولا يعنون لنا شيئا، ولا نعرفهم ولا يعرفوننا، ومن المؤكد أننا لن نلتقيهم ثانية. وربما بعضهم لا يعرف أين يقع العراق أو سوريا على خريطة العالم، وأراهن أن البعض الآخر لا يعرف معنى سني أو شيعي، وإن كان هذان «المصطلحان» دينيين أم قوميين أم هما لحزبين سياسيين. لكن هؤلاء يرغبون في معرفة أدق خصوصياتنا، طائفتنا. كي يقيمونا من خلالها، كي يعرفوا إن كنا نحن «الضحية» أم «الجلاد»؟ إن كنا من فريق «الأخيار» أو «الأشرار»؟ أو ما إذا كنا نستحق تعاطفهم أم لا؟
لا أعرف ما إذا كانت هذه الظاهرة موجودة قبل عام 2003، لكنها بالتأكيد برزت واستفحلت مثل ورم سرطاني خبيث بعد انهيار النظام العراقي السابق في ذلك العام وما تبعه من عنف طائفي بغيض وتصدرت أنباء ذلك النزاع نشرات الأنباء. وصارت التساؤلات من قبيل: من الأغلبية ومن الأقلية؟ ومن في الحكم ومن في المعارضة؟ وامتد الموضوع إلى سوريا بل حتى إلى مصر بعد أن صار البعض يصنف المصريين إلى «جماعة السيسي» و«جماعة رابعة»، وكانت التصنيفات قبلها «فلول» و«إخوان».
لا أنكر أنني أيضا أشعر بالفضول عندما أتحدث مع سوري أو مصري أو لبناني فأحاول معرفة توجهاته وانتمائه السياسي، ربما لأن ذلك يعين على فتح أبواب حوار معينة وغلق أخرى وتحاشي التطرق إلى مواضيع حساسة قد تثير انزعاج الآخر وحنقه، لكن لا أن يصل الأمر إلى حد الإصرار على معرفة الدين والمذهب لإصدار أحكام مسبقة على الآخرين نصنفهم وفقا لها. وقلة منا من لا يفعل.. وهذا هو أس البلاء!