خلال كلمته حول حالة الأمة، علم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن عليه مواجهة الانخفاض الحاد في شعبيته منذ منتصف العام الماضي. لذلك ركز في كلمته التي ألقاها الأربعاء الماضي على تحسين الرفاهية الاجتماعية والتعليم والرعاية الصحية، فضلاً عن التنمية الاقتصادية بدلاً من السياسة الخارجية، المنطقة التي طالما اعتمد عليها للحفاظ على شعبيته. لكن وعود بوتين تواجه عقبة كأداء، فالتحسينات التي يطمح لتنفيذها يعيقها النظام الفاسد للحكومة التي شكلها، والتي لا يعتزم حلّها، بناء على ما جاء في كلمته. خلاصة القول إنه يريد من روسيا أن تقتفي أثر الصين، من دون المزايا التنافسية التي تقدمها الصين.
التراجع في شعبية الرئيس بوتين بدأ بقراره رفع سنّ التقاعد. وسرعان ما أظهرت استطلاعات الرأي أن هذا ثمن دفعه الروس مكرهين لتنفيذ نسخة «الألم الكبير الرئيس»، التي برزت على نحو واضح في كلمته، حالة الأمة العام الماضي. بوتين أشار يوم الأربعاء الماضي، أنه بعد تعزيز سيادة روسيا ودفاعاتها، فقد بات مستعداً لتوجيه الاهتمام نحو تلبية احتياجات المواطنين. وقال بوتين إن احتياطات روسيا الدولية (والبيانات الرسمية تؤكد ذلك) كانت أعلى للمرة الأولى منذ سنوات (منذ عام 2010) من الديون الخارجية للحكومة والقطاع الخاص مجتمعة. وفي ظل حصانة الاقتصاد من الصدمات الخارجية، يبدو الكرملين مستعداً للإنفاق بسخاء.
يبدو البرنامج الاجتماعي مثل أكثر البرامج طموحاً التي طرحها بوتين. ويتألف من تقديم مساعدات ضخمة للعائلات التي لديها أطفال، بما في ذلك مساعدات أكبر، تقدم لمرة واحدة بعد مساعدات الولادة والرهن العقاري، وزيادة الإنفاق على برامج مكافحة الفقر؛ وعطلات الرهن العقاري للأشخاص الذين فقدوا وظائفهم؛ وزيادات بدل التقاعد. أعلن بوتين عن برامج لتحديث الرعاية الصحية والتعليم، ومكافحة السرطان، بما في ذلك برنامج بقيمة أكثر من 15 مليار دولار على مدى 6 سنوات وخطة لتوصيل الإنترنت عالي السرعة إلى جميع المدارس بحلول عام 2021.
كما وعد بإصلاح مشكلة إدارة النفايات المتصاعدة في روسيا، التي تسببت في اندلاع احتجاجات متفرقة في مناطق كثيرة، وصلت فيها مكبات النفايات إلى المناطق السكنية. وأكد أن إعادة تطوير المناطق الحضرية أولوية وطنية، وتعهد بتخفيض 20 في المائة من الانبعاثات الصناعية على مدى 6 سنوات.
ولانتزاع صيحات الإعجاب من الحضور من كبار المسؤولين ومؤيديه، تعهد بوتين بإلغاء جميع الأنظمة القائمة حالياً التي تستخدم للضغط على الشركات. أشياء مثل قواعد السلامة من الحريق، وقوانين الإنشاءات، وحماية المستهلك بحلول عام 2021. واقترح نظاماً أكثر تنظيماً وأكثر شفافية ليحل محله.
وبموجب خطة النمو التي وضعها بوتين ستعزز روسيا الإنفاق الحكومي والاستثمار، وخاصة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، وزيادة التعاون مع الصين. كما وعد بربط مشروع التكامل السابق للاتحاد السوفياتي، الاتحاد الاقتصادي الآسيوي، بمبادرة الحزام والطريق الصينية، تماماً كما حثّته الصين طويلاً على القيام بذلك.
في خطاب كهذا، كانت السياسة الأمنية مجرد فكرة ثانوية.
توقف بوتين لبرهة للحديث عن قلقه بشأن قرار الولايات المتحدة الانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى التي وقعت عام 1987. وقال إن العمل الجاري على أنظمة الأسلحة الجديدة التي قدمت في 2018 يسير بشكل جيد، وإن روسيا مستعدة في حال حدوث زيادة ملحوظة من تهديد الولايات المتحدة العسكري. لكنه لم يتطرق مطلقاً إلى أوكرانيا، أكبر مشكلة في علاقات روسيا مع الغرب.
من وجهة النظر المحلية، فإن التحول من المغامرات الأجنبية إلى القضايا الاجتماعية والاقتصادية مطلب طال انتظاره. لكن برغم ذلك لا يتوقع أن تثير هذه الوعود شغف الروس، خاصة أنها جاءت بشفافية تامة بعد التحول ضد بوتين في استطلاعات الرأي. كل ما كان قد وعد به هذا العام كان من الممكن تحقيقه في وقت سابق، وبموارد أكثر، لو لم يمض بوتين سنوات في مواجهته مع الغرب. حتى تباهيه بتجاوز الاحتياطيات الدولية الآن الديون الخارجية أصبح ممكناً فقط بفضل تقليص المديونية، الذي تسببت فيه العقوبات الغربية، بنفس القدر الذي تسببت فيه العقوبات الأخرى.
ورغم جميع المحاولات الرامية إلى تعزيز التعاون مع الصين، انخفض الاستثمار المباشر في روسيا خلال الأشهر السبعة الأولى من 4.2 مليار دولار في بداية العام الماضي، إلى 3.1 مليار دولار. وعلى الرغم من كون روسيا الشريك التجاري للصين الأسرع نمواً في العام الماضي، يعتبر النفط والسلع الأخرى أكثر من 3 أرباع صادرات البلاد إلى الصين، وهذا النوع من التجارة لا يستطيع إحداث تغيير جوهري في الوضع الاقتصادي لروسيا.
ويبدو أن بوتين يطارد خيالاً هنا؛ حيث يعتقد أن الإنفاق الحكومي والاهتمام قادر على مسارعة نمو الاقتصاد الروسي، كما فعلت الصين. ولكن الصين تواجه الآن حملة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ حيث تحاول ألمانيا وفرنسا مواجهة نفوذ الصين.
في مواجهة هذه الاقتصاديات الثلاثة العملاقة، اختارت روسيا، الأصغر من ناحية عدد السكان والناتج الاقتصادي، وضع قيود إضافية. فصراعها مع الغرب، على سبيل المثال، يشكل عقبة في سبيل الاستفادة من المؤسسات التعليمية الغربية على نطاق كبير، كما هو الحال مع الصين، كما أن قدرتها على الاقتراض لتمويل استثمارات تخضع لقيود شديدة.
نظام الحكم الروسي قد يبدو غير قادر على مساعدة بوتين في تنفيذ رؤيته. ففي الوقت الذي تحدث فيه عن تخفيف الضغط على قطاع الأعمال، كان أكبر مستثمر أجنبي في البلاد في السجن. ورغم استنكار بوتين بشأن طمر النفايات، يمتلك أصدقاؤه المليارديرات أسهماً كبيرة في شركات إدارة النفايات، التي سيتم تعزيزها فقط عبر قراره الأخير، لجعل الشركة المملوكة للحكومة مسؤولة عن التخلص من جميع النفايات الصلبة.
ورغم كل الوعود الاجتماعية والإنمائية، بلغ الإنفاق على الدفاع والأمن نحو 15 في المائة من جميع الإنفاق الحكومي الروسي، أو 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، (مقارنة بألمانيا التي تنفق أقل من 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي). وبموجب خطط الحكومة الروسية، ستنخفض حصة الإنفاق على الدفاع والأمن إلى 13.5 في المائة (أو 4.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي) عام 2021. ومن المتوقع أيضاً أن تنخفض نفقات الرعاية الصحية والتعليم على حد سواء من الإنفاق العام والناتج الاقتصادي. ولا شيء من هذا يشير إلى تحول كبير في أولويات نظام بوتين، من حماية نفسه إلى تحسين حياة الروس العاديين.
لا تزال قدرة بوتين على إحداث عراقيل على المستويين الدولي والوطني كبيرة. لكن عندما يتعلق الأمر بالتنمية، فإن موارده وخياراته مقيدة بمحاولاته السابقة لتحويل روسيا إلى حصن، وعجزه عن الحد من شهوات أصدقائه وأصحاب النفوذ. ووفق هذا المعنى، يظل خطاب حالة الأمة دون تغيير.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»
8:2 دقيقه
TT
بوتين بات مستعداً للتحول إلى الداخل
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة