طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

من «كان» إلى «برلين»

قبل عامين شاهدتُ في مهرجان «برلين» الفيلم الروائي السعودي «بركة يقابل بركة» للمخرج الموهوب محمود الصباغ، تميّز الفيلم بقدر كبير من العمق الفكري الممزوج بالسخرية القادرة على أن تُثير الكثير من القضايا الاجتماعية المسكوت عنها بإبداع، وكان السؤال، في المنصات الفضائية والمواقع الإخبارية العربية والأجنبية، عن السينما السعودية وكيف تتنفس بينما لا توجد دور عرض في المملكة، ووقتها اعتبروا أن هذا الفيلم مثل الأفلام القليلة الأخرى التي سبقته، على سبيل المثال «وجدة» لهيفاء المنصور، الحاصل قبل 6 أعوام على جائزة «المُهر» الذهبي من مهرجان «دبي»، الذي رشح لأول مرة لتمثيل السينما السعودية في مسابقة «أوسكار» أفضل فيلم أجنبي، هذه الأفلام مهما حققت من نجاح خارج الحدود ستواجه المناخ غير المهيّأ لاستقبالها في الداخل، كان المتوقع أنها ستظل حالات فردية، الربيع لا يصنعه تغريد عصفور واحد.
قبل نحو عام بدأ الحراك الفني في المملكة العربية السعودية، بمختلف أطيافه، وواكب ذلك بناء دور عرض سينمائية في العديد من المدن، وعرضت أفلاماً من مختلف دول العالم وأكثر من فرقة مسرحية، والعديد من الحفلات الغنائية، وتابعنا مهرجان «شتاء طنطورة»، وهذا الإقبال الضخم والنجاح الاستثنائي الذي يؤكد أن الفن والثقافة لن يتوقفا عن بث الدفء في كل جنبات الحياة.
في شهر مايو (أيار) الماضي، شاهدنا في مهرجان «كان» لأول مرة، وبعد أكثر من 70 عاماً على انطلاق المهرجان، الجناح السينمائي السعودي على شاطئ الريفيرا، وعرض في سوق المهرجان نحو 14 فيلماً تسجيلياً وقصيراً لشباب المخرجين، وتكرر الأمر في الدورة الأخيرة من مهرجان «برلين» حيث عرضت أيضاً أفلاماً سعودية داخل إطار السوق.
قد يبدو الأمر لمن لا يعرف آليات صناعة السينما أنه فقط شأن داخلي سعودي، في الحقيقة أن السينما في المملكة لها بُعدها الخليجي، وتتسع الدائرة لتصبح عربية بالضرورة، لتتسع أكثر لتشمل العالم كله، لأنها تعتبر إحدى الأسواق القوية الوليدة عالمياً.
لا أنكر طبعاً دور المخرج السينمائي المخضرم عبد الله المحيسن ومنذ السبعينات في القرن الماضي، إذ إن له بصماته، في الجهاد لتقديم السينما في المملكة، التي بدأها مع فيلمه التسجيلي «اغتيال مدينة»، وقبل نحو 13 عاماً عرض فيلمه الروائي الطويل «ظلال الصمت»، في سوق مهرجان «كان»، الذي اعتبر حدثاً استثنائياً، فهو بحق أحد المغامرين الكبار في عالم السينما.
السوق السينمائية في المملكة أعادت الأمل بقوة، وأنعشت صناعة مهمة عربياً، وبدأ بالفعل عدد من شركات الإنتاج العربية، التي كانت قد توقفت، في التمهيد للعودة للميدان مجدداً، لأن هناك موزعاً في المملكة سوف يتعاقد على تسويق الفيلم، السينما فن وصناعة وتجارة، وفي عالمنا العربي الفن وبنسبة كبيرة متوفر، والصناعة السينمائية لا بأس بها أيضاً، ويبقى الشق التجاري، الذي أرى أن دور العرض في المملكة ستلعب دوراً محورياً في إنعاشه.
الفنّ ليس مجرد أداة للترفيه رغم أهميته في حياة الناس، فهو يدفعهم للإجادة، ولكن يجب أن نضع أيضاً تلك الرسائل غير المباشرة التي تتسلل في نسيج العمل الفني. السينما المقبلة بقوة في السعودية قادرة على أن تحمل قضايانا وأحلامنا للعالم كله.