علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

هل حاول العقاد تضليل قارئه؟

كتب عباس محمود العقاد في مجلة «الرسالة» بتاريخ 25 -11 - 1946، مقالاً كان عنوانه «الإسلام والنظام العالمي الجديد»، والناظر في هذا العنوان، سيعتقد أنه، سيعود مرة أخرى للحديث عن كتاب مولانا محمد علي: «الإسلام والنظام العالمي الجديد»، لكن مع قراءة السطور الأولى من المقال، سيعرف أنه سينصرف حديثه إلى كتاب آخر.
قال العقاد في هذه السطور: «هذه هي الدعوة الثانية من الهند في هذا الموضوع، وهو موضوع الإسلام وأحكامه التي تتكفل للعالم بنظام شامل يحل معضلاته، ويوثق الروابط بين أممه، ويبسط الطمأنينة والسلام، وقد كتبت في (الرسالة) عن الدعوة الأولى لصاحبها المولى محمد علي الكاتب الهندي المشهور ومترجم القرآن إلى اللغة الإنجليزية، وهذه هي الدعوة الثانية؛ هي خطاب ألقاه ميرزا بشير الدين محمود أحمد في الاجتماع السنوي للجماعة الأحمدية بقاديان سنة 1942، ثم ترجم إلى اللغة الإنجليزية، وعنيت الجماعة بنشره قبل بضعة شهور».
وعرّف بموضوع الكتاب فقال: «ويبدو من مطالعة هذا الخطاب أن صاحبه يوجه النظام العالمي إلى حل مشكلة الفقر أو مشكلة الثروة وتوزيعها بين أمم العالم وأفراده، وأنه بغير شك على اطلاع واف محيط بالأنظمة الحديثة التي عولجت بها هذه المشكلة، وهي نظام الفاشية ونظام النازية ونظام الشيوعية، وبعض النظم الديمقراطية. ولكنه يعتقد بحق أن المشكلة لا تحل على أيدي الساسة وزعماء الأحزاب والحكومات، وأنه لا مناص من القوة الروحية في حل أمثال هذه المشكلات، لأنه الحل الشامل لكل مشكلة إنسانية عامة؛ يتناول الإنسان كله ولا يهمل فيه الباعث الأكبر على الطمأنينة والحماسة للخير والصلاح، وهو باعث العقيدة والإيمان».
ثم بعد تعريفه هذا بموضوع الكتاب، استعرض محتوياته برضا وموافقة على ما جاء فيها من أراء وأحكام حول الديانات الهندية واليهودية والمسيحية ومذاهب الفاشية والنازية والشيوعية، وكذلك حول ما جاء فيها من عرض لأحكام الإسلام في الحرب والسلام وفي مسائل الاجتماع والاقتصاد، بوصفها الأحكام المؤهلة لبناء نظام عالمي جديد عليها. أنهى استعراضه لمحتويات الكتاب بإطراء للكتاب، إذ أنه اعتبر ترجمته الإنجليزية «صيحة لا تذهب في الهواء إذا انتشرت بين قراء الإنجليزية الأوروبيين والأميركيين بل الهنديين والشرقيين»، إلا أنه مع هذا الإطراء المبالغ فيه الذي قاله في الكتاب، لم يستسغ أن يقرأ في ترجمته إلى الإنجليزية أن مؤلفه «أمير المؤمنين» و«الخليفة الثاني» و«المسيح الموعود». لأن «معنى ذلك أنه من فريق القاديانية الذين يدينون بمسيحية أو مهدية القادياني، ولا يكتفون له بوصف الاجتهاد، كما اكتفى المولى محمد علي وأصحابه من المسلمين».
وبعد أن عجب لهذه الألقاب التي تحيط الدعوة بين المسلمين أنفسهم بأسباب الإحباط والإنكار، سأل سؤالاً نقدياً هو: «ما هو موضوع هذه المسيحية الجديدة، أو هذه الخلافة، إذ كانت الحجج التي ساقها المؤلف كلها من المراجع الإسلامية الأولى، ولا زيادة عليها من وحي جديد؟».
وأردف سؤاله النقدي هذا بنصيحة للقاديانيين، كررها للمرة الثالثة لهم في مقالاته، فقال: «خير للدعوة أن تقصي عنها هذه الألقاب التي لا تزيدها قوة، وتأخذ منها كثيراً من قوتها بين المسلمين أنفسهم، فضلاً عن غير المسلمين».
كشفنا في مقالات سابقة أن العنوان الأصلي لكتاب مولانا محمد علي باللغة الأردية وباللغة الإنجليزية هو «نظام العالم الجديد» وليس «الإسلام والنظام العالمي الجديد»، كما في ترجمته إلى اللغة العربية، وأن الذي عرّف «لجنة النشر للجامعيين» بالكتاب هو مقال العقاد عنه، وأن مترجم الكتاب إلى اللغة العربية أضاف كلمة «الإسلام» إلى العنوان الأصلي تأسياً بما فعله العقاد في عنوان مقاله الذي عرَّف فيه بالكتاب والكاتب و«اللاهورية الأحمدية».
إذا كان يحق للعقاد أن يتصرف في عنوان الكتاب، ويحوره في عنوان مقاله إلى «الإسلام والنظام العالمي الجديد»، فلأن فحوى الكتاب كانت مجادلة للذين نادوا في أوروبا في أثناء الحرب العالمية الثانية بنظام عالمي جديد بعد انهيار النظام العالمي الأول «عصبة الأمم»، بأن الإسلام - ولا غير الإسلام - يجب أن ينطلق النظام العالمي الجديد المنادى به من تعاليمه، ويقوم عليها حتى لا تحصل حرب عالمية ثالثة. أقول إذا كان يحق للعقاد أن يتصرف في عنوان الكتاب في عنوان مقاله للسبب الذي ذكرته، فإنه كان يجب عليه أن يذكر عنوان الكتاب في متن مقاله.
إن العقاد لم يهمل ذكر اسم الكتاب الصحيح في متن مقاله الأول عن غير قصد. فمن الواضح أنه كان يرى أن العنوان الذي اختاره المؤلف عنواناً لكتابه عنوان ناقص، وأن العنوان الذي اختاره هو العنوان الأليق والأنسب والأصلح لموضوع الكتاب، وكأنه مشارك في إنشائه.
أجزم بهذا لأنه بعد مضي خمسة وعشرين يوماً على نشر مقاله الأول في مجلة «الرسالة»، نُشر له في مجلة «الرسالة» مقالٌ ثانٍ، كان عنوانه «الأميركيون والأميركيات يتكلمون في تعدد الزوجات والطلاق»، قال فيه: «لخصنا في عدد ماضٍ من (الرسالة) ما كتبه المصلح الهندي السيد محمد علي عن هذه المسألة - يقصد مسألة تعدد الزوجات والطلاق - في كتابه عن (الإسلام والنظام العالمي الجديد)». ولأنه في مقاله الثالث قال: «أتلقى منذ كتبت بـ(الرسالة) مقالي (عن) (الإسلام والنظام العالمي الجديد)». صحيح أنه وهو يتحدث عن كتاب آخر لمولانا محمد علي ذكر الاسم الصحيح للكتاب، وذلك عندما عرَّف بمؤلف رسالة «تسليم أوروبا وأميركا»، فقال بأن السيد محمد علي هو مترجم القرآن إلى الإنجليزية ومؤلف الرسالة التي لخصناها عن (نظام العالم الجديد). لكن - كما نرى - هو اسم الكتاب الصحيح، ولن يعرف هذا سوى الذي قرأه، إما في نسخته الأردية وإما في نسخته الإنجليزية. في عرضنا لما يهمنا في مقاله الرابع سمي أيضاً كتاب ميرزا بشير الدين محمود أحمد باسم «الإسلام والنظام العالمي الجديد»، مع أنه لا يوجد لهذا الرجل كتاب بهذا الاسم. فمن تصفحي لمؤلفات هذا الرجل، المترجمة إلى العربية، وجدت له مؤلفاً موضوعه مشابه إلى حد كبير للموضوع الذي استعرضه العقاد في ذلك المقال. اسم هذا المؤلَّف: «نظام الاقتصاد في الإسلام». لكنَّ ثمة اختلافاً في معلومتين بين الكتابين يتعلق بسنة الإصدار ومناسبة إنشاء الكتاب. فالعقاد - كما مر بنا - قال عن الكتاب الذي تحدث عنه: إنه خطاب ألقاه ميرزا بشير الدين محمود أحمد في الاجتماع السنوي للجماعة الأحمدية بقاديان سنة 1942.
وناشر الكتاب الذي ذكرت اسمه، أفاد بأنه في الأصل خطبة ألقاها «حضرة إمامنا الفقيد الحاج ميرزا بشير الدين محمود أحمد رضي الله عنه (هكذا يقدم القاديانيون خليفتهم الثاني! ومسيحهم الثاني!) في مجتمع من المثقفين بلاهور في 1945».
كذلك يوجد اختلاف آخر بين الكتابين: فالعقاد قال عن الكتاب الذي سماه بـ«الإسلام والنظام العالمي الجديد» أنه تحدث بنقد عن الأديان الكبرى في الهند، وعن اليهودية والمسيحية والفاشية والنازية والشيوعية، وقارن بين هذه الأديان وهذه المذاهب وبين الإسلام. وفي كتاب «نظام الاقتصاد في الإسلام» لا يوجد حديث نقدي أو غير نقدي عن أديان الهند الكبرى وعن اليهودية والمسيحية والفاشية، ولا مقارنة تفضيلية بينها وبين الإسلام. فالكتاب في جزء رئيس منه مكرس لنقد الشيوعية والمقارنة بين نظام المال في الإسلام والنظرية الاقتصادية في الشيوعية. وفي جزء أقل تعرض مؤلفه للمقارنة بين نظام المال في الإسلام والنظرية الرأسمالية.
التشابه كائن بين الكتابين من خلال ما قاله العقاد عن الكتاب الذي تحدث عنه، بأن «الكتاب معالجة الإسلام لمشكلة الفقر والثروة، وتناول الإسلام لمسائل الاجتماع ومسائل العلاقات بين المحاربين والمسالمين»، وربما الموضوعات التي أشار العقاد إليها قد حذفت من الكتاب في طبعة لاحقة منه.
كان العقاد في عرضه لكتاب مولانا محمد علي انتقائياً، وقدم صورة غير أمينة عنه في أكثر من جانب.
من هذه الجوانب، أن العقاد رغم عدائه وبغضه للنازية ونصرته لدول الحلفاء في معركتها مع دول المحور، إلا أنه قفز على قول مولانا محمد علي في الصفحات الأولى من كتابه: «وها نحن أولاء في العام الثاني من الحرب العالمية الثانية، وها هي ذي تباشير النصر على المعتدين تبدو واضحة في الأفق، وها هي ذي كل المسائل الخاصة بالنظام العالمي الجديد الثاني تبحث وتمحص، إلا مسألة واحدة بدا غيابها جلياً، وهي كيف يمكن جمع الدول المختلفة كلها في عالم إنساني واحد».
وقوله وهو يهاجم أوروبا: «إن هزيمتها هزيمة ماحقة، وها هي ذي فلول جيوشها المنهزمة تجرب حظها في الشرق، وفي جعبتها عَرَض اقتصادي لا جوهر ديني». السنة الثانية من الحرب العالمية الثانية تبتدئ من الثلاثة الأشهر الأخيرة في سنة 1941، وتشمل الشطر الأول من سنة 1942. وفي هذه الفترة الزمنية والفترة التي سبقتها اجتاحت ألمانيا النازية عدداً من الدول الأوروبية في ذلك التاريخ. وفي ذلك التاريخ وسنوات قبله كان المطروح هو النظام العالمي الجديد الذي تطالب النازية به. وللحديث بقية.