د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

السلام الحائر في أفغانستان

آمال حذرة بقرب السلام في أفغانستان تولدت في الأفق نهاية العام الماضي حين التقى المبعوث الأميركي زلماي خليل زاد مع قيادات من حركة «طالبان». قيل إن اللقاء ناقش المصالحة في البلاد بعد 18 عاماً من الحروب والدماء، مع التمني بأن تحدث المصالحة قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في أبريل (نيسان) المقبل. وفي الخلفية من اللقاء المباشر كانت هناك تحركات من قِبل قوى كبرى وإقليمية ومعنية بما يجري في هذا البلد، كروسيا التي استضافت لقاءً لممثلي ثماني دول تحيط بأفغانستان في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وباكستان التي زارها المبعوث الأميركي مرتين، والتي يدرك الجميع أنها صاحبة نفوذ على قيادات «طالبان»، حيث توفر لهم الملاذ وحرية الحركة. كما ظهرت أيضاً أدوار عواصم مهمة كالرياض وأبوظبي ونيودلهي وجنيف وغيرها من أجل حث «طالبان» على اقتناص فرصة السلم وحقن الدماء. وأخيراً، قرار الصين اعتبار حركة «طالبان» قوة سياسية، لأنها، حسب السفير الصيني في إسلام آباد، باتت جزءاً من العملية السياسية وتهتمّ بالمفاوضات. لكن المحصلة حتى الآن ما زالت تقف عند نقطة يبدو من الصعب تجاوزها، تتمثل في رفض «طالبان» التفاوض المباشر مع الحكومة الأفغانية التي يرأسها الرئيس أشرف غني، وتعترف بها الأمم المتحدة ودول العالم أجمع.
حين ننظر إلى موقف بكين اعتبار «طالبان» قوة سياسية، نجد مزيجاً من الإطراء الضمني ومقدمة ربما لممارسة بكين ضغوطاً أكثر على قادة الحركة لقبول مفهوم السلام بمعناه الشامل، وليس أحادي الجانب الذي يسيطر على إدراك قادة «طالبان»، ومفاده وفقاً لما يصرح به المتحدث الرسمي باسم الحركة ذبيح الله مجاهد، أن «طالبان» هي الحكومة الشرعية التي تتفاوض من أجل إنهاء نتائج الغزو الأميركي للإمارة الإسلامية في أفغانستان، وبما يتضمن وضع جدول زمني مقبول من «طالبان» أولاً وأخيراً لانسحاب القوات الأجنبية كافة وفي مقدمتها الأميركية، وإطلاق سراح أسرى الحركة، ورفع أسماء القيادات من قوائم الإرهاب الأميركية وإلغاء حظر السفر عنهم، وعدم الاعتراف بأي وضع آخر في البلاد، بما يعني عدم الاعتراف بوجود رئيس للبلاد وحكومة أخرى معترف بها، أو دستور يقبل به جزء كبير من الشعب الأفغاني.
تتجلى النظرة الأحادية لـ«طالبان» في تصور أنها تفاوض الأميركيين منفردة ومن منطلق قوة على الانسحاب الشامل والسريع، وبالتالي تخلو لها الساحة الأفغانية لتعيد تنظيمها كما كان الوضع قبل 18 عاماً، بما في ذلك فرض كل رؤاها الخاصة بالسلوك الاجتماعي والسياسي ووضع المرأة والتعليم. بعض تصريحات قادة الحركة أشارت إلى تغير نظرتهم إلى المرأة وأنهم لن يعترضوا على عملها في المؤسسات الحكومية شرط أن تلتزم بالسلوك التقليدي السائد في البلاد، وليس السلوك القادم من الخارج. والمتحدث باسم الحركة وعد من جانبه حال تسلمهم السلطة بإصدار عفو عام، وأن «طالبان» لن تشكِّل خطراً على المواطنين الأفغان. وهي وعود تكشف تمسك الحركة بقناعاتها القديمة من جانب، وإدراكها عدم تقبل جزء من الشعب الأفغاني لتلك الوعود من جانب آخر.
مثل هذه الرؤية الأحادية لـ«طالبان» ليست العائق الوحيد أمام جهود سلام حقيقية وشاملة، فهناك تعدد المسارات السياسية، وقيام أكثر من دولة بتنظيم لقاءات يشارك فيها ممثلون عن «طالبان»، دون أن يكون هناك تصور دولي أو حتى إقليمي محل توافق، وبحيث تكون هذه اللقاءات خطوات أصيلة وتراكمية لتحقيق هذ التصور الدولي التوافقي. وفي أحسن الأحوال يمكن اعتبار تلك المسارات واللقاءات محاولة لتطبيع فكر «طالبان» وإدماج قادتها في صلب البيئة الدولية والإقليمية بكل تناقضاتها وكل تفرعاتها، هذا بافتراض أن هناك عقلاً مركزياً إقليمياً أو دولياً يوجّه ويخطّط، وللأسف مجرد افتراض نظري.
عامل آخر يسبب قدراً من الالتباس سواء لدى قادة «طالبان» أو الحكومة الأفغانية مرتبط أساساً بما تردد عن الانسحاب الأميركي من أفغانستان، فثمة غموض يتعلق بوجود قرار بالانسحاب ومداه الزمني، وعلاقة ذلك بقوة «الدعم الحازم» التي يقودها الناتو وقوامها 16 ألف فرد من 36 دولة، مهمتها تقديم الدعم والتدريب والاستشارات للقوات الأمنية الأفغانية، فضلاً عن التزام أميركي ببناء قوات جوية بكلفة ستة مليارات دولار، وما زال أمامها وفق البرنامج الزمني المتفق عليه عامان آخران. وحين أعلن الرئيس ترمب عن نيته سحب نصف عدد القوات الأميركية البالغ قوامها 14 ألف جندي، أصبح لدى قادة «طالبان» شعور بقرب الانتصار، وأن عملياتهم العسكرية ضد القوات الدولية والجيش الأفغاني وقوات الأمن والمدنيين الأبرياء والتي راح ضحيتها أكثر من 126 ألف إنسان قد بدأت تؤتي ثمارها، وبالتالي فالمطلوب هو التفاوض فقط من أجل إتمام هذا الانسحاب وحسب، في المقابل أثارت نيات البيت الأبيض قلقاً مشروعاً وطبيعياً لدى الحكومة الأفغانية وكل من يؤمن بأن حكم «طالبان» كان كارثياً في السابق، وأن تفردها بالحكم إنْ حدث وفق أي صيغة فسيعيد البلاد قروناً إلى الوراء.
القلق المشروع للحكومة الأفغانية يعود في شقٍّ منه إلى أن قرار أو على الأقل إعلان نية الانسحاب من دون تنسيق مع الحكومة الأفغانية من شأنه أن يؤثر سلباً على الروح المعنوية لأعضاء الحكومة والمواطنين الذين يرون الوضع الراهن رغم كل الصعوبات والتحديات هو أفضل بكثير من الانصياع لحكم «طالبان» المتشدد. ويبدو التأثير السلبي أكثر على معنويات قوى الأمن الأفغانية بما في ذلك أفراد الجيش، والتي هي متدنية بالفعل نتيجة فارق القوة مع «طالبان» التي تحصل على أسلحة حديثة وأفرادها يتحصلون على مبالغ شهرية أفضل وتقوم بعمليات نوعية تحصد العشرات من الأنفس البريئة، ومن شأنه أيضاً أن يؤكد مقولات متواترة بأن الولايات المتحدة لا يعنيها حلفاؤها وهي على استعداد لأن تضحي بهم من دون سابق إشعار. وحالة الحلفاء الأكراد في الشمال السوري خير شاهد.
إلى جانب القلق المشروع فإن رؤية الحكومة لسلام شامل ليست واضحة بما فيه الكفاية، ورغم ما أعلنه الرئيس غني عن تشكيل فريق تفاوض برئاسة رئيس مكتبه يتكون من 12 فرداً، وأن أي سلام يتطلب خمس سنوات لتحقيقه بعد صياغة بنوده، فإنه يفترض قبول «طالبان» التفاوض المباشر مع حكومته من جانب، وهو ما لم يتحقق بعد، وأن الهدف النهائي هو إدماج «طالبان» في هيكل سياسي ديمقراطي تعددي ينظمه الدستور، وقبول حقوق الإنسان ومكاسب المرأة الأفغانية، وهو ما لا تعيره «طالبان» أي اهتمام. والنتيجة أن تصورات السلام نفسها متباعدة تباعد المشرق عن المغرب. وبالتالي يظل السلام حائراً: كيف ينطلق؟ وأين يستقر؟