فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

نقاشات حول كتب «جمع المقالات»

أشعل الأستاذ سمير عطا الله جذوة نقاشٍ مهمة حين كتب عن تجربته في تحويل المقالات إلى كتاب، وذلك بمقالته «المهنة الآثمة» (25 ديسمبر /كانون الأول/ 2018)، وقد عرض لرأي دور النشر التي لا تجد في التجربة ما يكفي من البيع. والواقع أن دور النشر الآن تتحاشى ما أمكن هذا النوع من التأليف، وذلك لاختلاف ظروف نشر المقالات في كتابٍ بين زمنٍ وآخر؛ بالغالب تنشر المقالة بالجريدة، ومن ثم تُتداول بمواقع نشرٍ أخرى ناقلة، هذا فضلاً عن «السوشيال ميديا» بأنواعها وانتقالها بين الأجهزة الكفية. والحق أن بعض المثقفين يشعر بحرجٍ من حكاية جمع مقالاته، وبخاصة غير الوقتي منها، أو الثقافي والأدبي. ومن المعلوم أن كتب الأستاذ القدير سمير عطا الله ومقالاته شكّلت مدرسة بينانية، ومن حظّ القارئ أن يجد مقالاته مجموعة بين دفّتي كتاب.
والحكم العام على نشر مجموع المقالات ممتنع، فبعضها غيرت مجرى التاريخ الفلسفي والعلمي، كما في مقالة «في الطريقة» لديكارت، ومقالة «في الميتافيزيقيا» للايبنتز ومقالة «اللوغوس» لهوسرل، الذي عرف بكتاب «الفلسفة علماً دقيقاً»، ومقالات الشباب لهيغل، ومقالات رولان بارت، ومقالات غاستون باشلار. وعلى المستوى السياسي مقالة «نهاية التاريخ» لفوكوياما، و«صراع الحضارات» لهنتنغتون، تلك نماذج قريبة وبمتناول اليد على المقالات المكتنزة بالعلم والمعرفة والقدرة على إثارة النقاش وتغيير طرق المعرفة ورسم منعطفاتها.
عربياً جمع طه حسين مقالاته، والعقاد، والصادق النيهوم (وفي كتابه «طرق مغطاة بالثلج» نشرت دراسة ضافية للأستاذ سمير عطا الله حول أسلوب الكتابة لدى النيهوم). كما جمعوا مقالات كل من: الطيب صالح، وأنيس منصور، وأدونيس، وعبد السلام بنعبد العالي، وعبد الفتاح كليطو، وغازي القصيبي، وتركي الحمد، ومحمد جابر الأنصاري، وعلي حرب، ومحمد الجابري، ويوسف الخال، والسيد ولد أباه، وهي كتب ثمينة تضم نواة دراسة، أو طرح نتيجة بحث، أو معالجة واقعة، أو التأمل بمفهوم، وتحولت لسلوى للقارئ، ونافذة له، ويستفيد منها الناشئ لما تحويه من تمارين فكرية وعدة فلسفية أو أدبية أو فكرية.
يا ليت أن من يجمعوا مقالاتهم بين دفتي كتاب بمستوى كتابة الأستاذ سمير ومثل الأسماء التي وردت، إذ تحمل فخامة في الأسلوب، وغنى بالمعلومة، وتسلية للشغوف بالمعرفة، ومساحة للنقاش والحوار، إنها تحقق أهداف المطالعة الحرة، والتمتع الأدبي بامتياز.
الكارثة التي نواجهها الآن ما يمكن تسميته بـ«إعادة تدوير النفايات»! نعم عبارة قاسية، ولكن مع تجربة لا بأس بها بعالم النشر وجدت الكثير من المقالات التي تتعجب من سبب نشرها بالجريدة، فضلاً عن تحويل مجموعها إلى كتاب. فلا يتعب الكاتب من أجل تهيئة المقالات لتكون كتاباً عبر تعزيز المعلومات ودعمها، ومراجعة النص وصقله، أو تحشية الكتاب ببعض الهوامش والتعليقات المساعدة. والأدهى أن تجمع مقالات متعلقة بحدثٍ وقتي زمني لا قيمة مستقبلية له، وبعضهم تعثر بنص المقالات على عباراتٍ مثل: «في الأسبوع الماضي» من دون أن يكلف الكاتب نفسه عناء تحويل الظرف الزمني لتاريخ مكتوب يرفع من مستوى اقتناع الناشر بأن المقالات تستحق أن تجمع في كتاب.
الحرج الذي يعيشه بعض المثقفين ناشئ من جرأة المتعالمين على هذا المجال، والدفع بكل القصاصات بقضها وقضيضها من دون تمييز أو انتخاب، ومن دون تعديل أو تبويب، ومن ثم تخوف دور النشر من محتواها أو مردودها.
ثم إن الشرط بالكتاب، سواء كان مؤلفاً بوحدة موضوعية، أو جمعاً لمقالاتٍ متنوعة، أساسه بالمضمون والمحتوى، ولذلك خلدت كتب مقاليّة للأسماء آنفة الذكر، ولم تفقد بريقها على مر السنين، بل يتغذى منها القارئ باعتبارها لوحاتٍ جمالية، وحدائق غنية، وفضاءات علمية وأدبية بهية.
وعليه فإن امتناع دور النشر أو تخوّفها بإطلاق من طباعة نشر المقالات فيه جور على الكتب ذات الثراء، وقد تمنع القارئ من كتبٍ ثريّة، فحين تقرأ مقالات بنعبد العالي أو كليطو تعثر فيها على تذكير ثري بمعلومات تكاد تتفلت، أو بنصٍ بعد العهد به، أو بتحليل ذكي له وميض آسر.
يا ليت أن كل الكتب المجموعة من مقالات بمحتوى الأساتذة الكبار، حينها تعثر على كنز ثمين تقرأه بهدوء في شتى الأمكنة والأزمان.