بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

الأيوبي «كذبة»! ثم ماذا؟

من منطلق تعزيز مبدأ «حرية القول»، كما يُقال، يجوز أن يُعطى فلانٌ، أو عِلانٌ، حق الجهر بباطل يدعي أن «صلاح الدين الأيوبي كذبة»، كي يتجاوز، بذلك الزعم، حدود الافتراء إلى اجتراء التطاول على تاريخ أمةٍ يبدو أنه يشكل لهما، ومن شابههما في التزوير، عقدة تختبئ تحت المسام، وتنتظر فرصة الظهور من جحور الأفاعي لتنفث سموم فِتن التشكيك، كأنما ليس يكفي العرب والمسلمين ما حاق بهم من مصائب الفِتن في دينهم، بفعل خوارج العصر، ومن مدّهم بمال أو نفخ في صورهم لنشر ضلالهم وزيف فكرهم. إنما، بالمقابل، وفق قوانين المعاملة بالمثل، وأعراف حق رد الادعاء على من ادعى، جائز القول لمن تطاول على قامة بحجم صلاح الدين الأيوبي، إنَّ ما أتى به هو ذاته ليس سوى «كذبة» يخجل لفجاجتها كل كذّاب أشِر يجيد احتراف الكذب، حتى يبدو كمن صدق، في نظر غافلين غير قادرين على ميز الخبيث من الطيّب في كل شيء، وليس فقط فيما يسمعون أو يشاهدون مما ابتُلي به زمن «الكذبميديا» من أباطيل.
واضح لكل من يتابع، عن قرب أو بعد، أن التطاول آخذٌ في التعدد أشكالاً وألواناً، ومستمرٌ في النَيل من قامات كان لها تأثير واضح في مسار شعوبها. المفجع أن اجتراء الباطل على الحق يرفع الصوت زاعماً أن مراجعة الماضي تتطلب عقولاً تملك جرأة التقليب في خلفيات وقائع اكتسبت، عبر قرون، صفة «المُسلّمات». في الظاهر، ليس ثمة خطأ في مطلب كهذا. منطق البحث العلمي يقول إن ما من تراث عام فوق النقد، وليس من إرث يخص مسار حكم شخص ما، بأي من عصور ماضٍ ولى، غير قابل للتمحيص أو المراجعة. المشكل، إذن، ليس في مبدأ التدقيق المنهجي بغرض فك التداخل، أو الاشتباك، إذا وُجِد أي منهما، بين واقع ما جرى على الأرض، والمُتخَيَّل في الأذهان، أو التفكير الرغبوي. إنما المشكل أن بعض دعاة، وربما غلاة، الدفاع عن «حرية التعبير» يسيء، هو نفسه، استخدام التعبير، فتراه يرتكب حماقة من يضع الكحل في العين فيصيبها بالعمى.
لماذا يستخدم ممثل سوري، قبل أيام، على وجه التحديد وصف «كذبة» بحق قائد بحجم صلاح الدين الأيوبي؟ ومِن قبل، في خواتيم سنة 2017، لماذا يلجأ كاتب مصري إلى صفة «الأحقر» في الادعاء على القائد ذاته؟ تجنبت ذكر اسميهما عن قصد، هل يجوز هنا استدعاء مثل الحسناء رَهم بنت الخزرج، في تعامل ضرائرها المغتاظات منها، الذي شاع عند نساء قدامى العرب: «رمتني بدائها وانسلت»؟ ربما، لستُ أحبذ القول القطع بلا وقائع تسنده، وفق مبدأ «الحُجة على من ادعى». إنما، من الجائز القول إن الاجتراء بشكل فاضح، على سيَر شخصيات تاريخية لم ينَلْ فقط من شخص صلاح الدين الأيوبي، أو غيره من قادة كبار ينتمون لثقافات مختلفة، ولسيَرهم المتميزة، خيراً أو شراً، مكانها الواضح في سجل التاريخ، بل لقد طال فلاسفة مبدعين، وزعماء متميزين، ولم ينجُ رسل وأنبياء كرام، وحواريون رافقوهم، أو أصحاب لهم، وأحياناً أهلوهم، من أذى تطاول قبيح عليهم، تعج به منصات «الميديا الفضائحية».
ثم، مِن بعْد، كم هو سيئ أيضاً، وهذا ضمن السياق نفسه، أن يأتي التطاول في شكل تشويه لجمال فن أصيل في ثقافة أي شعبٍ، له موقع خاص في تراث مجتمعات المشرق العربي مثلاً. يقع التشويه عندما يتحول تراث مهم يحبه الناس إلى تشويه ظاهر.
لقد غدا التطاول في تشويه أشخاص كبار أمراً مقرفاً حقاً، فهل سيطول التشكيك كل شيء في تراثنا؟