عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

عدو الشعب

مواجهة أقل من دقيقتين بين الرئيس دونالد ترمب ومراسل «سي إن إن»، جيم أكوستا، فجرت الصراع في نفوسنا بين الولاء للقبيلة التي ننتمي إليها (أي الصحافيين) ومنطق العدل الطبيعي للأمور.
معظم التقارير الصحافية والمراسلات على وسائل التواصل الاجتماعي تظهر أكوستا كبطل الساعة: الرجل الذي وقف في مواجهة ترمب (الشخصية التي شيطنتها الصحافة الغربية الليبرالية) يقاتل - نيابة عنا - معركة حرية الصحافة واستقلاليتها.
لم أعمل مع السيد أكوستا عن قرب، ولا شك أنه رجل فاضل؛ لكن «وراء الرواية أعمق مما تشاهده العين»، حسب القول الإنجليزي الشهير.
هناك تقاليد للقاءات الصحافيين بالمسؤولين، ربما تتفاوت بين بلد وآخر، لكن لها جميعاً، في الأنظمة الديمقراطية الغربية، إتيكيت باتفاق جنتلمان غير مكتوب.
في اللقاءات المغلقة (أوف ذي ريكورد) عادة، مع مستشارين لرئاسة الحكومة أو أركان الجيش، تكون المناقشة كتحليل سياسي، وتعرف بـ«التزام تشاتهام هاوس»، أي عدم نسب عبارة مباشرة. فالمستشار غير منتخب من الشعب، والديمقراطية البريطانية مثلاً، بخلاف الأميركية، تسمح فقط بمقابلة مع مسؤول منتخب؛ وأحياناً ما يحتد الجدل في هذه اللقاءات، لكنه يبقى طي الكتمان.
في اللقاءات المفتوحة المسؤول يختار الصحافي، والأخير بدوره يراعي الإتيكيت، ولا يحول سؤالاً إلى حوار مع المسؤول.
الرئيس ترمب أعطى أكوستا الفرصة لطرح سؤالٍ بحرية كاملة (أي لم تكن حرية الصحافة تحت أي تهديد).
بعد إجابة الرئيس، طرح أكوستا سؤالاً ثانياً، وأجابه الرئيس.
فقط عندما طرح سؤالاً ثالثاً فرابعاً، رفض الرئيس ترمب، وطلب منه الجلوس.
السؤال الواحد يستغرق ثلاث أو أربع دقائق للإجابة، وعندما يستحوذ مراسل على ربع ساعة، سيحرم بقية الزملاء في القاعة من طرح أسئلتهم.
عندما توجهت شابة تحت التدريب في المكتب الصحافي (مهمتها تسهيل تنقل الميكروفون) لاسترداد الميكروفون، تشبث به أكوستا، وتدافعت الأيدي.
ولا شك أن أكوستا لم يتعمد الإساءة إليها، لكن الثقافة الأنغلوساكسونية تقدس حرية مساحة الجسم الشخصية، ومجرد لمس شخص بلا إذنه يعتبر تعدياً؛ وهو ما يحاول المكتب الصحافي ترويجه كمبرر لتجميد بطاقة أكوستا، أو التصريح الصحافي لعضوية مجموعة البيت الأبيض.
العضوية المشابهة في بريطانيا يصدرها مكتب الأمن البرلماني، بالمشاركة مع أجهزة المباحث، للتأكد من خلفية الصحافي. وداخل المجموعة البرلمانية، هناك عضوية أخرى منحت أجهزة الأمن لها الضوء الأخضر، بعد التأكد من وطنية الصحافي، وتأهله لتحمل المسؤولية، تعرف بمجموعة اللوبي (ليس بالمعني الأميركي، وإنما صحافيون لهم امتياز بالتنقل في اللوبيهات، أو الردهات الداخلية للبرلمان، والاختلاط بالنواب). وأيضاً تتيح الشريحة الإلكترونية في بطاقاتهم الدخول لرقم 10 داوننغ ستريت، ومصاحبة رئيسة الوزراء على الطائرة نفسها.
لكن هذا التقارب الشخصي لا يمنع الصحافيين أحياناً من استفزاز المسؤول أو رجل السياسة.
أذكر قبل 15 عاماً، في أثناء المؤتمر الصحافي الشهري لرئيس الوزراء توني بلير في داوننغ ستريت، أن فاجأته بسؤال: لماذا تعترف حكومته بتنظيمات غير منتخبة تدعي أنها تمثل مسلمي بريطانيا، كـ«المجلس الإسلامي»، وتمنحهم دعماً مالياً؟ فرد بسؤال: «أولاً، هل أنت مسلم؟»، فقاطعته، بأدب شديد: «مع احترامي لمركزك، يا سيادة رئيس الوزراء، فإن ديانتي ومعتقداتي أمر خاص بي، وليس من شأنك؛ مهمتك الإجابة عن الأسئلة، لا طرحها، لأنها مهمتي التي أتلقى أجراً عليها». وكان أن أعتذر رئيس الحكومة، وكرر الاعتذار، فشكرته على عطفه، وكررت طلبي بالإجابة عن سؤالي (وانتقد كثير من الزملاء بلير في مقالات وتقارير تغطية المؤتمر الصحافي).
استفزاز المسؤول (وإن كان غير مستحب، والأفضل مواجهته بأسلوب مهذب)، بغرض الحصول على المعلومة أو منعه من التهرب من الإجابة، أمر مشروع. أما استفزازه للدخول معه في عراك، كمشهد مسرحي لتسلية المشاهدين وزيادة عددهم، أو لإشباع غرور الصحافي وخيلائه، فهو عمل غير ناضج، يضر بالمهنة وبسمعتنا كصحافيين.
كان ردي على رئيس الوزراء بلير ليس بقصد إحراجه، وإنما لأنه كان يحاول التهرب من الإجابة، بتحويلها إلى مناقشة أمور شخصية، وأردت محاصرته لدفعه للإجابة.
كصحافيين ننتمي لقبيلة واحدة، ندافع دائماً عن زملائنا، لكن فلنتوقف أمام ما حدث في البيت الأبيض: هل كان أكوستا يخوض معركة، نيابة عنا جميعاً، من أجل حرية الصحافة؟
هل كان يخاطر بحياته ورزقه ومستقبله ضد نظام يحاصر حرية التعبير والنشر وحرية طرح الأسئلة؟
لا تنسَ أن الرئيس منحه الميكروفون ليطرح الأسئلة بحرية، وأجاب عن سؤالين لرجل حاول احتكار الوقت لنفسه، مما يحرم عشرات الزملاء من وقت طرح أسئلتهم. هناك إتيكيت وأسلوب ماهر وحاذق لطرح الأسئلة بوضوح ومباشرة وحقائق للحصول على أفضل إجابة ممكنة، والهدف يجب ألا يكون لاستعراض العضلات، وتحويل المؤتمر الصحافي إلى مناسبة للتسلية الهزلية عبر شاشات التلفزيون، وهو ما تحاوله المؤسسات الصحافية التلفزيونية (خاصة ذات الاتجاهات اليسارية والليبرالية) منذ انتخاب الرئيس ترمب.
بالطبع تضامن مراسلون آخرون، خصوصاً من «إن بي سي»، مع أكوستا، لكن ماذا حدث بعد مسرحية أكوستا والشابة والميكرفون التي استمرت أقل من دقيقتين؟
تلقى الرئيس ترمب الأسئلة، وأجاب عنها من صحافيين من جميع أنحاء العالم، كرجل دولة، لتسعين دقيقة.
ما يقلقني كصحافي هو الطريقة الخاطئة التي تتعامل بها المؤسسات الصحافية الليبرالية مع الرئيس ترمب، التي تبدو كحملة سياسية لتقويض إدارته، وليس لخدمة مشاهديها ومستمعيها بنقل الحقائق والمعلومات.
أي أنها دخلت خصماً كأحزاب معارضة، بدلاً من أن تظل سلطة رابعة مستقلة كدعامة أساسية في البنيان الديمقراطي؛ وهي سابقة تشكل خطورة على الشرعية التي يمنحها المواطن للصحافة لتنوب عنه في محاسبة المسؤولين.
مؤسسات كـ«سي إن إن» انتقدت «فوكس نيوز» لأنها تخلط بين الخبر المحايد والرأي المنحاز، لكن «سي إن إن» حولت نشرتها المسائية إلى ما يشبه مقالة رأي عن علاقة ترمب بالصحافة، بدلاً من نقل ما حدث بحيادية، وترك الأمر للمشاهدين للحكم بأنفسهم.
ممارسات المؤسسات الصحافية تقوي موقف الرئيس ترمب عند اتهامه المؤسسات الصحافية بأنها «عدو الشعب»، لكنه في الواقع أكثر رئيس في تاريخ أميركا يعشق معركته مع المؤسسات الصحافية، فمهاجمتها له باستمرار تضطرها لتخصيص وقت كبير من البث، لم يحظَ به رئيس أميركي آخر قبله.
ومثلما قال المسرحي الساخر أوسكار وايلد (1854 - 1900): دعاية سلبية ضدك أفضل من غياب أي دعاية.