محمد المخزنجي
كاتب مصري
TT

عقوبة

مع حلول الظلام في رحاب غابات وجبال وقرى الأمازون، تنطلق الخفافيش «مصاصة الدماء» من كهوفها بحثاً عن طعام، بضع قطرات من الدم لا تملأ ملعقة شاي صغيرة يحصل عليها الخفاش من «فريسة» مواتية، تكفيه لعدة أيام، بعدها يتعرض للموت إن لم يُجدِّد الوجبة...
الخفافيش مصاصة الدماء تلك، ليست بتلك البشاعة التي توحي بها التسمية، فهي من الضآلة حتى إن أضخمها لا يتجاوز حجمه حجم أصغر عصافير الدوري، كما أن امتصاصها لوجبات الدماء من عروق «ضحاياها» يتم بخفر ورقة مدهشتين؛ يهبط الخفاش قرب البقرة أو الشاة المستهدفة مهتدياً لا ببصره، بل بإطلاق طقطات خاطفة غير مسموعة ترتطم بالهدف وترتد ليستقبل أصداءها راداره الحي، وبخاصية الاهتداء بذلك «الصدى المكاني» يحدد غايته. ولأنه لا يجيد المشي على الأرض بقدميه، فإنه يتوكأ على أطراف عظام ساعديه اللذين يطويان ويفردان عباءة جناحيه الجلديين، فيبدو مثل متسلل عجوز حذِر، وبالحذَر ذاته يقفز ويهبط خفيفاً على جسد الهدف المُراد، بقرة هاجعة تكاد لا تُحس به لفرط خفته عليها.
وبرهافة شبه مطلقة، بأربع أسنانه المتقابلة في مقدم فكيه، اثنتان فوق توجهان اثنتين تحتهما، وكلها مشحوذة كمشرط جراح بارع، يشق الخفاش جرحاً كالخدش في المنطقة التي يحددها بدقة مذهلة، ويكون تحتها وعاء دموي صغير تجري فيها الدماء ساخنة، لا يحس سخونتها بخطمه عندما يلامس جسم الهدف، بل عن بعد، وبحاسة اكتشاف الأشعة تحت الحمراء للسخونة الخفية. وبينما يُعمِّق الخفاش الجرح، يسكب فيه من لعابه مادة مسكنة تحتوي أيضاً على ما يمنع تخثر الدماء، فتظل تسيل الدماء خفيفة وهو يلعق، دون أن يتألم الدامي، والخفاش يلعق.
تؤوب الخفافيش إلى كهوفها قبيل انبلاج الفجر وبهرة النور، تلوذ بسقوف الكهوف مقلوبة الأوضاع، مخالب أقدامها التي لا تجرح تتشبث مُحكَمة بنتوءات السقوف وكأنها أُلصِقت بلاصق، وفي هذا الانقلاب رأساً على عقب، تتجمع جمهرة خفافيش الكهف في عناقيد كبيرة، الإناث معاً في ناحية، والذكور معاً في ناحية أخرى. لكن، ورغم هذا الفصل الجنسي الشائع بين معظم الحيوانات البرية، ولأسباب لعل منها تنظيم الطاقة والحرص الفطري على ربط الجنس بغاية التكاثر، تتم مراجعة جماعية مشتركة للموقف من حصاد الدم الذي خرجت إليه الجماعة منذ الغسق وحتى ما قبل الفجر. ثمة خفافيش حالفها الحظ ونالت كفايتها أو أكثر من الدم الذي يبقيها حية لثلاثة أيام، وثمة خفافيش كان حظها عاثراً فلم تلعق قطرة دم واحدة ويتهددها الموت سريعاً إن لم تُسعف ببضع قطرات تبقيها حية حتى اليوم التالي.
إن انطلاقات الخفافيش لجمع ما تقتات به تكون جماعية، يحددها الطقس وقرب مصادر القوت غير المحفوفة بما يهددها أو يطاردها أو يعرضها للمخاطر. وعندما لا تتحقق كل تلك الشروط في أقرب وقت، لا يتبقى أمام عاثري الحظ من الخفافيش إلا أن يعيرها حسنو الحظ بعضاً مما غنموه، وهنا تنكشف الخصال، فثمة خفافيش مترعة ترفض أن تمنح مما امتلأت به ولو قطرة، وثمة خفافيش تستنكر هذا السلوك وتمنح مما لديها المعوزين عن طريق الاجترار، ويكون المنح من فم إلى فم، فتبدو المتلقية وكأنها تقبِّل أفواه المانحة امتناناً، وتبدو المانحة كما لو كانت تتلقى قبلات امتنان المتلقية بحياء. ولا ينمحي هذا المشهد من ذاكرة الخفافيش.
ولأن الإناث هن من ينظم هذا التبرع المنقذ بالدم لإخوتها الموشكة على الاحتضار، فإن ذاكرتها لا تُسقِط حساب من منح ومن منع، ولقرابة عام كامل، ففي موسم التزاوج الذي لا يأتي إلا مرَّة في السنة، ولا يتم إلا بالتراضي بين هؤلاء العائشين على الدم، ترفض الإناث جميعاً عناق أي من أنذال الذكور، لعل نسل النذالة ينقطع!