ألقى الرئيس إيمانويل ماكرون خطاباً مهماً خلال افتتاح المؤتمر السنوي للسفراء الفرنسيين في 31 أغسطس (آب) الماضي، واختلفت نبرة ذلك التصريح قليلاً عن المداخلة المتفائلة المفعمة بالثقة المتطلعة نحو المستقبل التي قام به العام الماضي في السياق نفسه. قال الرئيس الفرنسي في كلمته «نحن الآن نواجه لحظة الحقيقة أكثر مما كان عليه الحال منذ عام».
ما سبب ذلك التشخيص؟ وكيف ينبغي على فرنسا وأوروبا، بحسب رأي الرئيس ماكرون، التقدم نحو الأمام لمواجهة التحديات الجديدة؟ إذا أمكننا إيجاز نهج شهير معقد لإيمانويل ماكرون، سيتعين علينا القول، إن الأمور اتخذت منحى غير سليم بالنسبة لفرنسا من جانبين خلال العام الماضي.
الجانب الأول والأهم هو أوروبا. عندما تم انتخاب ماكرون كان الكثيرون يشعرون بالحماسة تجاه ما تم اعتباره تراجعاً مصيرياً بالنسبة إلى الموجة الشعبوية التي كانت تجتاح أنحاء أوروبا. كان هناك أمل في أن تمثل الانتخابات الفرنسية بداية لتناقص القوة المتنامية للسياسيين الشعبويين في أوروبا، لكن في الواقع أثبتت الأحداث عكس ذلك. عند تأمل الحالة الفرنسية حينها من منظور الحاضر ستبدو أنها استثناء؛ فقد فاز قادة الاتجاه الشعبوي بالانتخابات في كل من النمسا وإيطاليا، وازدادت شعبية قادة ذلك الاتجاه في مناطق أخرى، وأصبح زملاؤهم في ألمانيا يمثلون تهديداً لائتلاف المستشارة الألمانية ميركل. كذلك كان الوضع في ألمانيا محبطاً بالنسبة لماكرون، وبات حجر عثرة أمام ما يطمح إليه من تدشين عملية إصلاح قوية للاتحاد الأوروبي، وبخاصة منطقة اليورو، فبسبب المشكلات المحلية لم تعد برلين الشريك الذي يمكن الاعتماد عليه كما كان عليه الأمر من قبل. دائماً ما تكون هناك مفارقة في هذا الوضع، فعندما كانت ألمانيا مستعدة، لم يكن الفرنسيون كذلك، والآن بعدما حظيت فرنسا بقائد نشط، أصبح الألمان عاجزين.
مع ذلك، ليس الرئيس ماكرون بالرجل الذي يتزعزع ويهتز أمام الصعاب، فقد أقرّ في خطابه أمام السفراء بأن خطته للدفع باتجاه اتحاد أوروبي أكثر تكاملاً تواجه صعوبة بسبب القادة الآخرين مثل أوروبان، رئيس وزراء المجر، أو سالفيني، وزير الداخلية الإيطالي. إنه يعرف أن انتخابات البرلمان الأوروبي المقبلة المقرر إجراؤها في مايو (أيار) 2019 ستكون صعبة بالنسبة له. مع ذلك السؤال الخطابي الذي طرحه أمام السفراء كان «هل ينبغي أن نستسلم؟»، وكانت إجابته «على العكس، يجب علينا زيادة إرادتنا وتعزيزها لتحقيق سيادة أوروبية فعلية». وأكد مرة أخرى شعاره، وهو أن زيادة قدرة أوروبا على التعامل مع مخاوف المواطن العادي هي الطريقة الوحيدة لإقناع الناخبين بدعم أوروبا.
ربما يوجد عاملان يشجعان ماكرون في مثابرته على مواجهة الشعبوية في أوروبا؛ الأول هو أن جوهر الخصومة والخلاف بين القادة الداعمين لأوروبا والشعبويين يكمن في مسألة الهجرات. وقد أكد الرئيس الفرنسي مرة أخرى أن النهج القومي في التعامل مع هذه القضية لن يجدي نفعاً، بل الحل هو جعل أوروبا أقوى، وحماية حدودها الخارجية، وتحقيق قدر أكبر من التضامن الداخلي في السيطرة على تدفق طالبي اللجوء. العامل الآخر هو وجود توافق متنامٍ في أوروبا على الحاجة إلى إقامة ما يسمى «الحكم الذاتي الاستراتيجي الأوروبي»، أي محاولة زيادة الإنفاق على الدفاع، وتجاوز أوجه الضعف الاقتصادية للدول الأوروبية تجاه شركائها العالميين (أميركا والصين أيضاً). وهذا ما يريده الفرنسيون تماماً منذ عقود. إضافة إلى الأزمة التي تشهدها أوروبا بسبب صعود التيار الشعبوي، هناك عامل أساسي آخر مفاجئ بالنسبة لفرنسا وأوروبا، وهو النهج الذي تتبعه واشنطن في مواجهة القضايا العالمية. صحيح أنه منذ عام كانت واشنطن تمثل بالفعل مشكلة لحلفائها الأوروبيين، على سبيل المثال فيما يتعلق باتفاق باريس للمناخ، لكن منذ بداية العام الحالي، ألغت الإدارة الاتفاق النووي الإيراني، وشنّت حرباً تجارية، وأثارت انزعاج مجموعة الدول الصناعية السبع، وجرت نقاشات مع رئيس كوريا الشمالية، والرئيس الروسي على أساس لا يتفق مع الروابط التقليدية بين الولايات المتحدة وحلفائها، وأخيراً دعمت واشنطن الحركة الشعبوية في أوروبا صراحة، وبخاصة خصوم المستشارة الألمانية ميركل ورئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي.
عارض الرئيس ماكرون بقوة كل خطوة من تلك الخطوات، وفي الوقت ذاته بذل جهداً كبيراً لدفع ترمب نحو اتجاه أقل سُمّية، لكن دون جدوى. مع ذلك؛ لم يهدر ماكرون وقتاً خلال حديثه أمام السفراء في انتقاد ترمب، حيث وصف الموقف الأميركي الجديد بأنه «عَرض» لأزمة أكبر هي «العولمة الرأسمالية». ويعتقد ماكرون أن الاتجاه نحو الأمام في مواجهة الأزمة الأوروبية ليس تغيير المسار، لكن تطبيق أكثر حزماً لسياسات تم وضعها بالفعل. على العكس من ذلك، فيما يتعلق بأزمة تعدد الأقطاب، يعتقد الرئيس ماكرون أن هناك حاجة إلى طرح طرق وسبل جديدة. لا يعتقد الرئيس الفرنسي أن الصين يمكن أن تصبح بديلاً للقيادة الأميركية. وقد أكد في خطابه على الدافع «العدائي» وراء السياسات الصينية. سوف تتولى فرنسا رئاسة قمة مجموعة الدول السبع عام 2019، ويرى ماكرون ذلك فرصةً لتغيير الطريقة التي تعمل بها الدول الكبرى معاً، أو لا تعمل إن شئنا الدقة، لإدارة الحكم العالمي. ويعتزم الإبقاء على الشكل الحالي لقمة الدول السبع، أي عدم إضافة روسيا رغم اقتراح دونالد ترمب، بل سوف يعيد توجيه مهامها ووظائفها، حيث يقترح أن تكون القمة منصةً لحوار دائم مع الدول الصاعدة في قضايا محددة، مثل الصين فيما يتعلق بالتجارة والبيئة، والهند فيما يتعلق بالمسائل الرقمية، وأفريقيا فيما يتعلق بالشباب. سوف يجتمع بالروح ذاتها على هامش فعاليات اجتماع الحادي عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) في باريس خلال العام الحالي، وهو اجتماع ينعقد بين الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، والصين، واليابان، بشأن قضايا التجارة.
هل يعني كل ما سبق تحول الدبلوماسية الفرنسية بعيداً عن تركيزها التقليدي على قضايا الشرق الأوسط؟ ليس هذا ممكناً، حيث لا يزال حل الصراع في الأزمات الكثيرة التي تشهدها المنطقة أمراً رئيسياً، وقد أقرّ الرئيس في كلمته بذلك الأمر من أجل ضمان أمن الشعب الفرنسي. وقد أشار ماكرون إلى أنه سيعود سريعاً بمقترحات جديدة إزاء الشرق الأوسط. وأكد مرة أخرى على تركيز الدبلوماسية الفرنسية على حل النزاع في ليبيا. أما فيما يتعلق بسوريا، فقد كان له تعليق مفاجئ، حيث قال «الإبقاء على الأسد في السلطة سيكون خطأً شنيعاً»، وبذلك يصبح أكثر وضوحاً وصراحة عن أي وقت مضى في هذا الشأن. وأضاف قائلاً «من الذي تسبب بوجود ملايين من اللاجئين؟ من الذي ذبح شعبه؟».
مع ذلك؛ لم يركّز ماكرون هذه المرة كثيراً على المسألة الإيرانية مقارنة بما كان يفعل في تصريحاته الخاصة بالسياسة الخارجية خلال الشهر الماضي. سيظل الشرق الأوسط، وأوروبا، من المسائل الجوهرية والرئيسية في السياسة الخارجية الفرنسية. لا ينبغي على المرء استبعاد محاولة ماكرون أن يكون لفرنسا مواقف أكثر وضوحاً فيما يتعلق بقضايا أخرى، مثل الحكم العالمي بسبب «أزمة تعدد الأقطاب»، والحوار مع أفريقيا، وما أطلق عليه «المحور الهندي - الهادي» (الهند وأستراليا واليابان)؛ لأنه إذا لم يكن المرء يستطيع الاعتماد على القيادة الأميركية ولا يثق بالصين خليفةً لها، عليه بناء «تحالفات جديدة». وقد استخدم ماكرون تعبير «تحالفات جديدة» في خطاب ألقاه بتاريخ 27 أغسطس. وربما يصبح ذلك شعار الدبلوماسية الفرنسية في المستقبل القريب.
* خاص بـ«الشرق الأوسط»
8:32 دقيقه
TT
إلى أين تتجه فرنسا وما هي «التحالفات الجديدة»؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة